رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: عميد «المثقفين المندمجين» مع سلطة يوليو 1952

محمود خليل
محمود خليل

يعد عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين نموذجًا للمثقفين الذين خاضوا رحلة انتقال سلس من العصر الملكى إلى عصر الحركة المباركة عام ١٩٥٢. فكما بزغ نجمه فى مجتمع ما قبل يوليو، حاول أن يحتفظ بمستوى لمعانه بعدها، فارتبط بأعضاء مجلس قيادة الثورة، وتشكلت بينه وبين عبدالناصر علاقة كان يصفها طه حسين بـ«الخاصة». وكان العميد- كما ذكرت لك- من أوائل الكتّاب الذين أطلقوا على «الحركة المباركة» للضباط وصف «الثورة».
يذكر ثروت عكاشة فى مذكراته أن صفحات مجلة «التحرير» التى أصدرها ثوار يوليو احتضنت صيحة الدكتور طه حسين الرافضة لوصف ما حدث يوم ٢٣ يوليو بالحركة المباركة أو النهضة، وإصراره على أن يحمل اسم «ثورة». ربما كانت تلك وجهة نظر طه حسين، وقد يكون لديه حينها ما يبررها، لكن المتابع لسيرة عميد الأدب العربى يحتار عند مقارنة أسلوب تفاعله مع حركة يوليو بما تمتع به من كبرياء وشموخ فى مواجهة السلطة فى العصر الملكى، وكيف عامل الأمير أحمد فؤاد- ملك مصر فيما بعد- بأنفة وغضب حين حدثه عن مؤتمر لـ«العميان»، وكيف رفض طلبه- بعد أن أصبح فؤاد ملكًا- منح مجموعة من السياسيين الموالين له درجة الدكتوراه الفخرية.
لعدة سنوات ظل طه حسين يدافع عن الضباط ويمتدح أفعالهم وقراراتهم، وفى اللحظات التى كان يعود فيها إلى كتيبته من المثقفين والسياسيين الموروثة عن العصر الملكى- ومن بينهم صديقه مصطفى باشا النحاس- كان يهون من مخاوفهم وهواجسهم، ويقلل من قيمة تحفظاتهم على بعض القرارات التى اتخذها الضباط خلال الأشهر الأولى للثورة، وتوجسهم من المآلات التى يمكن أن تنتهى إليها الأمور نتيجة الاستئثار بعملية صناعة القرار، وتفكيك بنى الأحزاب السياسية التى تنتمى إلى «العهد البائد».
هل يجد هذا الموقف تفسيره فى حالة التأرجح التى ميزت الأداء السياسى للعميد قبل يوليو ١٩٥٢؟. قد يكون. فقبل الثورة كان طه حسين من أكثر الكُتّاب الصحفيين المتأرجحين فى اتجاهاتهم وميولهم السياسية. بدا معاديًا لـ«الوفد» وموجهًا قلمه إلى نقد زعيمه التاريخى سعد زغلول، وأشد ميلًا إلى الأحرار الدستوريين، وكاتبًا بارزًا فى جريدتهم «السياسة»، وانتهى به المآل إلى تغيير موقفه والإعراب عن تأييده وانضمامه إلى حزب «الوفد» وفكره الليبرالى الذى كان أكثر اتساقًا مع أفكاره وتوجهاته. هذه الطبيعة المرنة- وأحيانًا المتقلبة- لشخصية العميد قد تكون من ضمن العوامل المفسرة لتحوّل طه حسين من النقيض إلى النقيض قبل يوليو ١٩٥٢، ثم التحوّل من النقيض الذى آمن به «الوفد» إلى نقيض جديد بعد حركة الضباط.
لكن يبقى خيط رفيع فاصل بين الأداء السياسى لطه حسين قبل ثورة يوليو وبعدها. قبل الثورة لم يفقد طه حسين حسه النقدى سواء مع فريق الأحرار الدستوريين أو مع «الوفد». فى الحالتين كان يمارس دوره كمثقف عضوى مهموم بقضايا مجتمعه ومنشغل بتقييم أداء الحكومات- على اختلاف أطيافها- وأساليب تعاملها مع هذه القضايا. أما بعد الثورة فقد تحوّل هذا المعارض الجسور الذى خاض معارك فكرية وثقافية وسياسية ضارية بدا فيها مقاتلًا عنيدًا إلى كائن أليف مستأنس.
كان للعميد عذره فى تأييد الثورة خلال سنواتها الأولى بسبب انحيازها إلى الفقراء الذين عبّر عنهم طه حسين فى رواياته: «المعذبون فى الأرض» و«ما وراء النهر». وقد سمعته فى لقاء تليفزيونى يعلّق على إحدى قصص مجموعة «المعذبون فى الأرض» التى تحوّلت إلى تمثيلية تليفزيونية، ويشير إلى دور الثورة فى تعميم مجانية التعليم الجامعى، لتتم الرحلة التى خاضها العميد دفاعًا عن مجانية التعليم، ولم ينس أن يلمّح، وهو يتناول هذا الموضوع، إلى موقف نظام الحكم الملكى من التعليم، وكيف أن البيت العلوى كان يرفض ذلك.
تبنت الثورة توجهًا اجتماعيًا مدافعًا عن حقوق الفلاحين والعمال والطبقات الفقيرة بالمدن، واستحدثت من القوانين التى تؤكد هذه الحقوق الكثير. هذا التوجه كان يتناغم مع الفكر الاجتماعى لطه حسين، الأمر الذى جعله يدافع عن الضباط ضد خصومهم، بمن فى ذلك الوفديون الذين كان يصطف بين صفوفهم بالأمس. يقول مصطفى عبدالغنى: «كان طه حسين كثير الالتقاء بزعماء الثورة، خاصة جمال عبدالناصر، كما كان ينقل إلى رجال الوفد حديثًا طويلًا ظل يردد مضمونه دون أن يغيره قط، وهو أن رجال الثورة الجدد يقدرون جهاد الوفد وجهاد النحاس باشا، ولكن يجب أن نلاحظ أنهم شبان ويجب أن نتماشى قليلًا مع أهدافهم».
ظل طه حسين مؤيدًا لثورة يوليو دون مواربة، وبارك العديد من الخطوات التى اتخذتها، بما فى ذلك الخطوات التى جارت على الديمقراطية وحرية الرأى، وأخذ يقدح فى العهد الملكى البائد ويصمه بكل نقيصة، رغم أنه كان يمدح الملك فاروق بالأمس. كما شارك فى المعارك التى خاضها مجلس قيادة الثورة، ومن أبرزها معركة تجديد قانون الأزهر، والمعركة ضد جماعة الإخوان عام ١٩٥٤. ونال مقابل ذلك وسامًا من الدولة وترأس تحرير جريدة الجمهورية «الصحيفة الناطقة باسم الضباط».
نخلص مما سبق إلى أن طه حسين اعتمد أسلوب المهادنة والملاينة مع ضباط ثورة يوليو، مدفوعًا فى ذلك بطبيعته المزاجية المتقلبة، بالإضافة إلى احتفائه ببعض الإجراءات التى اتخذتها الثورة لصالح الطبقات الاجتماعية المهمشة، وتناغمت مع ما كان ما يطرحه العميد من أفكار اجتماعية فى كتاباته ورواياته، وقد يكون الخوف أيضًا دافعًا لتبنى خط المهادنة والملاينة مع الثورة. يذكر مصطفى عبدالغنى فى كتابه عن «طه حسين وثورة يوليو» عبارة لافتة ما فتئ يكررها العميد بعد ١٩٥٢ يقول فيها: «من أحمق الحمق أن نتحامق على حمقى!».
أيًا كانت الأسباب الفكرية أو المصالحية التى دفعت العميد إلى مهادنة وملاينة ضباط الثورة، فإن العلاقة بين الطرفين بدأت تفتر بمرور الوقت. وكان السبب فى ذلك رسوخ أقدام السلطة الجديدة وعدم حاجتها إلى غيرها، بالإضافة إلى جريان العمر وارتباك الأوضاع الصحية للعميد بدءًا من العام ١٩٦٠ كما تشير زوجته «سوزان طه حسين» فى كتابها «معك»، إلى حد أنه أصبح يواجه صعوبات فى الوقوف والسير.
ألغت جريدة «الجمهورية» تعاقدها مع طه حسين عام ١٩٦٢ بصورة أغضبت الرجل. لحظتها تأكد العميد أن الثورة بهذه الخطوة تعلن استغناءها عن خدماته، فأصبح يؤثر الجلوس فى بيته، وبدا عازفًا عن الكتابة السياسية وحتى الأدبية. وظل الرمز الأكبر للنخبة الثقافية المصرية على تلك الحال حتى قابل وجه ربه أواخر أكتوبر عام ١٩٧٣، بعد أيام من انتصار أكتوبر المجيد، ليحتل موقعه فى ذاكرة العلاقة بين المثقف والسلطة عام ١٩٥٢ كواحد من أبرز النماذج على «المثقف المندمج».