رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو.. والتوازن الدولى «الجزء الثالث»


واتساقاً مع كل هذه الترتيبات التى بدأتها الولايات المتحدة منذ أكثر من 100 سنة مضت، هل يمكن أن يكون تراجع اهتمامها بالشرق الأوسط الذى يربط المحيطين ويربط العالم بأسره لمجرد اكتشافها هذا الخزان العـملاق؟ وهل يمكن أن نصف الاتفاق التاريخى مع إيران الذى قادته الولايات المتحدة تراجعاً لاهتمامها بالمنطقة؟!

تناولت فى الأسبوع الماضى تأثيـر ثورة 30 يونيو فى أزمة العلاقات بين مصر والولايات المتحدة وقيام الأخيرة بتجميد الجزء الأكبر من المساعـدات العسكرية وربط استئنافها بإعادة إدماج جماعة الإخوان فى المعادلة السياسية المصرية،والتقارب المصرى الروسى الذى أتاح لروسيا فرصة تعـزيز وجودها فى المنطقة، والتراجع الأمريكى الذى أرجعه البعـض إلى تقلص اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، بسبب اكتشافها أكبر خزان عملاق يحتوى على مخزون هائل من زيت البترول والغاز الطبيعى فى أراضيها، الذى يوفر لها الاكتفاء الذاتى ويجعلها من أكبر المصدرين للطاقة، واليوم أتناول كيف سيطرت الولايات المتحدة على العالم حتى يتبين لنا حقيقة تراجع اهتمامها بهذه المنطقة بالغـة الأهمية لبنيان أى استراتيجية عالمية أو إقليمية، والتى وصَفها ماكـنـدر Mackender بـ «قلب العالم Heart Land»، والذى إن تمكن أحد من السيطرة عليه يمكنه أن يسيطر على العالم القديم «أفريقيا وأوروبا وآسيا» والذى يسيطر على العالم القديم لن يلبث طويلاً حتى يسيطر على العالم بأسره، ويمكن أن نتبين أيضاً إن كان التراجع تكتيكياً أم استراتيجياً.

والواقع فإن الذى كشف عـن المخـطـط الأمريكى للهـيـمـنـة عـلى العـالـم هو الرئيس كينيدى فى خطابه لتدشـين حاملة الطائـرات «كـيـتـى هـوك» التى لا تغـادر شـواطئ الولايات المـتحدة إلا عـنـد التصعـيـد للحـدود القـصـوى للـصراع حيث أعـلن «أن السيطرة على البحار والمحيطات تعـنى الأمن والسلام، والسيطرة على البحار تعـنى النصر، وينبغى أن ندرك درس القرن العـشريـن وهو أنه بالـرغم من التـقـدم المذهـل فى الفـضاء والجـو، إلا أنه يتعـين على الولايات المتحدة أن تكون قادرة على معـرفة المحيطات والتحرك عـبر بحار العالم، ولا يجب أن يكون ذلك لمجرد حب الاستطلاع، إذ إن بـقـاءنـا يـوماً قـد يـتـوقـف عـلى ذلـك»، وقد تم التخطيط لهذا المنظور السياسى الاستراتيجى للسيطـرة على العالم على يـد الأدمـيـرال ألفريد ماهان A. Mahan فيما عـرف بنظرية القوى البحرية التى تقابـل النظرية البرية لماكـنـدر والنظرية الجوية لدى سيفـرسكى De Severski وهى النظريات الاستراتـيجية التى تبحث فى السيطرة على العالم.

وقد صاغ ماهان نظريته فى كتابه «Influence of Sea Power on History»، والتى تتلخص فى إيجاز شديـد فى «أن الذى يسيطر على البحار والمحيطات يمكنه السيطرة على العالم بأسره»، وقد استند ماهان فى إثبات نظريته على بعـض الحقائق، فاستند أولاً إلى أن جميع البحار «إلا فيما نـدرمثل القوقاز والبحر الميت» تتصل بجميع المحيطات لتشكل بحراً عالمياً واحداً، وبالتالى فمن السهل إيجاد وسيلـة واحـدة ونظام واحد للسيطرة على هذا البحـر العالمى بواسطة قوة بحريـة متفوقة، واستند ثانياً إلى حقيقة تاريخية وهى ضرورة الاستفادة من التجـربة البريطانية للملكة فكتـوريـا «1837ـ 1901» التى استطاعت تأسيس إمبراطورية لا تغـيب عنها الشمس بفضل امتلاكها أسطولاً بحرياً متفوقاً لا تمتلكه القوى المنافسة، ثم جمع بين مفهومى الجيوستراتيجية والجيوبوليتيكية ثالثاً، إذ نادى بشق قـناة تصل المحيطـيـن الأطـلنطى والهـادى عـبر البحـر الكاريبى «قناة بنما»، وأن يكون مسطاحى القناة ملكاً للولايات المتحدة.

واستند أخيراً إلى أن السيطرة على العالم تستلزم ضرورة الوجود فى الجزر الاستراتيجية فى كل من المحيطين الهنـدى والهادى، والتوسع فى إنشاء القواعد البحرية بما يضمن أن يكون هـذان المحيطان بحيرتين أمريكيتين، ففى المحيط الهندى اتفقـت الولايات المتحدة مع بريطانيا على تحويل جزيرة دييجو جارسيا إلى أكبر قاعـدة بحرية أمريكية وأنشات أكبر محطة تموين سفن فى جزر سيشيل وقاعدة بحرية عملاقة فى أرخبيل دهلك بأريتريا، وحصلت على تسهيلات فى موانى ممباسا بكينيا، وبورسودان وجدة وميناءى صلالة ومسقط فى عمان، وميناء المنامة فى البحرين وكراتشى فى باكستان، وأنشأت قاعـدة العـديـد والسيلية ومركز القيادة الرئيسى فى قطر، أما فى المحيط الهادى فقد اشترت ألاسكا وجزر قـوس الوشـيـان من روسيا وجزر الفـيليـبـيـن من إسـبانيـا مقابـل 20 مليـون دولار، واستولت عـلى جزر ميدواى والسامو وهاواى، وأجـبـرت اليابان عـلى إخلاء جزر كارولينا ومارشال ومارينا، حتى أصبح المحيطان الهندى والهادى بحيرتين أمريكيتين ينعـم فيـهما الأمريكيـون بالهدوء والسكينة.

واتساقاً مع كل هذه الترتيبات التى بدأتها الولايات المتحدة منذ أكثر من 100 سنة مضت، هل يمكن أن يكون تراجع اهتمامها بالشرق الأوسط الذى يربط المحيطين ويربط العالم بأسره لمجرد اكتشافها هذا الخزان العـملاق؟ وهل يمكن أن نصف الاتفاق التاريخى مع إيران الذى قادته الولايات المتحدة تراجعاً لاهتمامها بالمنطقة؟!

هذا ما سأتناوله الأسبوع المقبل بإذن الله.

■ أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة بورسعيد