رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المؤرّخ العراقى سيّار الجميل: الإسلام السياسى سينتهي 2039 (حوار)

المؤرّخ العراقى سيّار
المؤرّخ العراقى سيّار الجميل

قلة من المؤرخين يستطيعون عبر دراساتهم التاريخية الواعيّة أن يقدموا قراءات تاريخية مُعمقة، ويستخلصون من خلالها جذور أزمات الواقع الراهن وأبعادها، ثم يستشرفون المستقبل وآفاقه بناء على معطيات فكريّة راسخة، والمؤرخ العراقى سيّار الجميل واحد من هؤلاء المؤرخين الذين قدّموا قراءات فكرية وتاريخية واعية.
أصدر «الجميل» ما يربو على ٤٠ كتابًا، منها «العثمانيون وتكوين العرب الحديث: من أجل بحث رؤيوى معاصر»، و«بقايا وجذور: التكوين العربى الحديث»، و«العولمة الجديدة والمجال الحيوى للشرق الأوسط: مفاهيم عصر قادم»، و«العولمة والمستقبل: استراتيجية تفكير»، وحرّر فى أكثر من ثلاث موسوعات عالمية، كما درَّس مساقات التّاريخ العالمىّ وتاريخ الفكر المقارن، ومناهج التّاريخ وفلسفته، والتّاريخ العثمانىّ، وتاريخ إيران وتركيا، وتاريخ الشرق الأوسط، وعمل مستشارًا علميًا للعديد من مراكز الأبحاث والمؤسّسات الدوليّة، منها «اليونسكو» و«الألسكو» و«الإيسيسكو».
كما حاز عددًا من الجوائز، منها جائزة «شومان» للعلماء ١٩٩١، وقلادة العلماء المتميّزين من النمسا ١٩٩٥، وجائزة الكوريار إنترناشونال ٢٠٠٤، ومُنح لقب سفير السلام العالمى عن الأمم المتحدة عام ٢٠٠٩.
فى هذا الحوار الذى أجرته «الدستور» مع المؤرخ والمفكر العراقى نتطرق إلى تلك الاستشرافات التى أفصح عنها الكاتب فى كُتبه ومقالاته المرتكزة على بحوث تاريخية وفكرية جادة، كما نناقشه فى عدد من القضايا العربيّة الراهنة بالرجوع إلى ما قدّمه من كتابات تشتبك مع أسئلة الواقع العربى.

■ فى كتابك «العولمة والمستقبل: استراتيجية تفكير» قلت إن العالم العربى سيواجه فى الثلاثين سنة المقبلة ٢٠٠٩ - ٢٠٣٩ المزيد من الصدمات الداخلية التى ستفجرها مجموعة التناقضات التى شكلها آباؤه وأجداده فى القرن العشرين.. إلى أى مدى يمكن القول إن التناقضات المذكورة كانت نتاجًا لعوامل خارجيّة أيضًا بدرجة كبيرة؟ وما طبيعة الانفراجة التى تتوقعها بعد ذلك العام المحدد؟
- عندما قلت ذلك فى كتابى المذكور عام ١٩٩٩، كنت أدرك أن المتغيّرات القوية ستأتى عامى ٢٠٠٩- ٢٠١٠ وكنت أتوقع سقوط الديكتاتوريات وبدء ٣٠ سنة من صناعة الفوضى والانسحاقات وتفاقم التناقضات الاجتماعية التى عبّرت عنها بالفعل الأحداث السياسية المريرة، منذ بدأت أحداث سبتمبر ٢٠٠١ وغزو أفغانستان ٢٠٠٢ واحتلال العراق ٢٠٠٣.
وأتمنى أن يدرك المرء أن العوامل الخارجية لا تفعل فعلها فى أى مجتمع، إن لم يكن مختلًا أو متعبًا أو كثير الانقسامات، كما هى مجتمعاتنا التى تواجه منذ أزمنة مضت تحديات خطيرة لم تستطع الاستجابة لها نظرًا لضعفها، على عكس الأمم الأخرى.
لم أقل بأن ٢٠٣٩ ستصبح دنيانا متطورة وتندر منها التناقضات، ولكن ستخرج من طور الفوضى إلى نوع ما من الاستقرار بفعل قوة التحولات السريعة، وسيأتى جيل الأحفاد بعد جيل الأبناء، اليوم، كى يجد نفسه فى أوضاع من نوع آخر، ولقد حللت ذلك فى كتابى «المزامنات الثانية.. مشروع فكرى عربى: مكاشفات فى نقد التناقضات العربية» المنشور عام ٢٠١٧.
■ فى كتابك «العثمنة الجديدة.. القطيعة فى التاريخ الموازى بين العرب والأتراك» قلت «إن مشروع العثمنة الجديد مجرد مشروع مؤقت ومرحلى وستزول الأدلجة التركية مع رحيل أردوغان».. هل يمكننا الجزم بذلك فقط لعدم إمكانية إحياء الماضى بطرق معاصرة كما أوضحت فى كتابك؟ وكيف إذن تمكننا قراءة السياسات التركية الاستفزازية لا سيّما فى الشرق الأوسط؟
- لا يمكن أن تُقرن الأيديولوجيا بالسياسة، فالأولى مسارها طويل والثانية مسارها قصير، ولكن يمكن أن تخدم إحداهما الأخرى من خلال وجود أردوغان فى السلطة، فإن غاب عنها، فليس هناك مَن سيقوم بالدور نفسه، وليس كل من يمثل العثمنة الجديدة اليوم بصقر مثل أردوغان.
وعليه، فهى مرحلية، ناهيكم عن أن القديم لا يمكن أن يرجع إلى قدمه، وأن تاريخ ما قبل سبعة قرون لا يمثل واقعنا اليوم، وأنا لا أؤمن أبدًا بإمكانية إحياء الماضى بطرق معاصرة، فأى محاولة مثل هذه ستعد ماضوية لا تخدم الإنسان، وعلينا ألا نخلط بين المبادئ والمصالح، فقد كانت سياسات تركيا قبل سنوات تؤمن بمبدأ صفر مشاكل، ولكنها اليوم تبحث عن مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية أولًا وأخيرًا.
■ انطلاقًا من مبدأ «استحالة إحياء الماضى بطرق معاصرة».. هل يُمكن القول إن الإسلام السياسى قد كُتبت نهايته؟ أم هل ثمة خيارات قد تسمح بانتشاره مجددًا فى المستقبل؟
- نعم، إن الإسلام السياسى ستكتب نهاياته مع ٢٠٣٩، وهو أمر نسبى من بيئة إسلامية إلى أخرى، فلدينا إسلامات سياسية متنوعة، أشهرها: إسلام سياسى عربى وإسلام سياسى إيرانى وآخر إسلام سياسى تركى وغيرها، وستواجه جميع هذه الإسلامات طرقًا مسدودة أمامها، كما أتوقّع، ذلك أن الناس فى كل العالم الإسلامى بدأت تدرك يومًا بعد يوم حجم المفارقات بين الإيجابيات والسلبيات الناتجة من الإسلام السياسى بشكل عام.
فضلًا عن ذلك، فالإسلام السياسى يحمل تناقضات فى الدواخل، إذ أشعل الخلافات العقدية وأحيا النوازع الطائفية وأقحم مجتمعاتنا فى صراعات اجتماعية، وشلّ العلاقة بينها وبين العالم كله، وعليه، فإن العلاقة بدأت تنفصم بينه وبين الواقع، وربما لا يضمحل فجأة، ولكنه سيعانى من سكرات الموت جراء ما حدث من انتهاكات خطيرة باسمه، وحتى إن كانت هناك خيارات فسوف لا تسمح به فى المستقبل.
■ كيف ترى ردود الأفعال العربية حول تصريحات الرئيس الفرنسى ماكرون مؤخرًا؟ وإلى أى مدى يمكن الوثوق بجديّة دعوات بعض الدول، مثل قطر وتركيا لمقاطعة البضائع الفرنسية؟ هل تثبت تلك القضية مجددًا أن العرب ليسوا سوى «ظاهرة صوتية»؟
- ما نفع ردود الأفعال العربية الصوتية؟! وكم تنفع مثل هذه المواقف المتسرعة؟! وقد تساءلت: إن رجال دين ومثقفين وكتابًا وساسة عرب أراهم فى فيديوهات وحوارات وخطابات يشتمون ويسبّون بعضهم بعضًا، بل وهناك من ينل من رموز الإسلام الأولى فى دواخل مجتمعاتنا، من دون أن يسكتهم أحد، أو يفضحهم أحد، أو يحاججهم أحد، وهم يهددون مجتمعاتنا من دواخل حصونها.
السؤال: هل باستطاعة هذه المجتمعات أن تسكت ما يقوله هذا أو ما يرسمه ذاك فى الغرب أو الشرق؟! إن مجتمعاتنا تهين نفسها بنفسها، ويتراقص هذا على حساب التنكيل بهذا الرمز أو ذاك.. فهل هناك ما يمنع هذا الزعيم الأوروبى أو ذاك الأمريكى من أن يقول ما يريد؟!
■ ناقشت فى بعض كتبك ودراساتك «النكبة الفلسطينية وتأسيس إسرائيل»، وأشرت إلى أن من يقرأ ٧٠ سنة من حياة إسرائيل سيجدها كيانًا غير شرعى وغير تاريخى وغير أخلاقى، وأن مصيرها سائر إلى الزوال.. فى ضوء المعطيات التاريخية تلك.. كيف تقرأ المستجدات الخاصة بتوجه دول عربية للتطبيع مع إسرائيل؟ وبرأيك، هل يمكن أن تحقق اتفاقيات السلام تلك الاستقرار للمنطقة العربية أم ستقود إلى مزيد من الاضطرابات؟
- لا أستطيع أن أتحدث عن وجود دول عربية قوية اليوم، ولا أستطيع القول إن العرب نجحوا فى القرن العشرين فى أن يكونوا قوة حيوية وفاعلة فى العالم حتى يمكنهم ردع إسرائيل ومن وراء إسرائيل.
وعليه، لم أهتم أبدًا بتوجه دول عربية للتطبيع مع إسرائيل كونها دولًا لا يمكنها أن تزعزع هذا الكيان أبدًا، ولم تكن هى نفسها قد شاركت على الأرض فى الصراع ضده! ما يهمنى دول الطوق والعراق، وحتى هذه الدول قد أصبحت أشلاء ممزقة.
أيضًا، لا يمكن التعويل على دول العالم الإسلامى أبدًا، وفى مقدمتهم إيران، لأن الجبهة التى صنعتها باسم المقاومة تبدو هشة كتلك التى كانت قبلها، والتى تسمى «الصمود والتصدى»، وليست لهذه الجبهات القدرة على إيقاف إسرائيل أو إيذائها.
وعليه، عادت اتفاقيات السلام لتأمين مصالح ليس إلا، ولا أعتقد أبدًا أنها قادرة على تحقيق الاستقرار للمنطقة العربية، فمشاكل المنطقة معقدة ومركبة وأكبر من هذا «الموضوع».
وكونوا على ثقة بأن مصير إسرائيل سائر إلى الزوال، ولكن ليس من خلال الصراع وميادين الحرب، ذلك أن إسرائيل أقوى منهم، بل إن مستقبل إسرائيل ستحدده عوامل ومشكلات أخرى ديمغرافية واجتماعية وثقافية فى الدواخل والمحيط وبتحولات العالم فى القرن الحادى والعشرين.
■ فى ظل قراءتك للتغيرات العولمية وأثرها على العالم.. كيف تقرأ حدود تأثير نتائج الانتخابات الأمريكية على مستقبل منطقة الشرق الأوسط؟
- العالم لن يتغير بتغير الرئيس الأمريكى كما يتصور البعض. إن الرهان على أى واحد من الاثنين سيلقى بتأثيره على الشرق الأوسط هو تفكير قاصر لا يجدى نفعًا، فمشاكل الشرق الأوسط لا تحلها أى انتخابات أمريكية أبدًا، فالسياسة الأمريكية إن اختلفت، فثمة استراتيجية أمريكية هى من نوع آخر فى رؤيتها للعالم وللمجالات الحيوية فيه.
■ من كتبك التى أثارت الجدل «تفكيك هيكل» والذى قلت فيه إن «كتبه تفتقد إلى الموضوعية والأمانة ومليئة بالأكاذيب»، وكنت ممن قدّموا قراءات نقدية جادة لأعماله.. من أين تأتى برأيك قناعة الكثيرين بمصداقيته؟ وما الانطباع الذى تأكد لديك عنه بعد حملة التشهير التى قادها ضدك؟
- نعم.. كان «تفكيك هيكل» ولم يزل قد هزّ ثقة الناس بهذا الرجل الذى بنى أمجاده من خلال الرئيس جمال عبدالناصر، وكان مثقف سلطة من الدرجة الأولى، فأشهرته صحفيًا وكاتبًا، وبعد وفاة عبدالناصر استغل شهرته لكتابة عدة كتب أخضعتها جميعها للنقد ومنهج التفكيك والفكر المقارن، فوجدت أن الرجل فاقد للموضوعية والأمانة تمامًا وله قدرة عجيبة على فبركة أحداث ونصوص وحكايات مع ملوك ورؤساء ورجال مشهورين فى العالم لا أساس لها من الصحة مطلقًا، إذ نشر كتابًا كاملًا عن حواراته مع أينشتاين، ولما تحققت منها وجدت أن لا أصل ولا صحة لذلك مطلقًا.
أما قناعة الناس به وبمصداقيته فهى ليست كما كانت عليه فى الماضى، إذ فقد تلك «المصداقية» اليوم. أما من يزل هائمًا به، ويجعله أسطورة فهو يستهويه أسلوبه أو نظرًا لاعتزاز البعض بعبدالناصر، أو لأن من يقرأ كتب هيكل لا يكلف نفسه عناء التحقق مما نشره الرجل، مع محبة البعض للمبالغة والتهويل اللذين برع فيهما هيكل.
وهناك من يهوى قصص الإساءة لبعض الزعماء العرب، مثل السادات والملك حسين بن طلال والملك الحسن الثانى وغيرهم. أما بالنسبة لما قام به ضدى كونه لم يقو أبدًا على المواجهة والمجابهة، إذ تحديته أن نخرج معًا على الشاشة، فسكت، ولكنه استخدم أسلوبًا غير رجولى من خلال علاقاته وجماعاته هنا وهناك فى بعض الدوائر والمراكز والجامعات، وآذانى فى رزقى كما حاصر نسخ الكتاب فى مصر، إذ كان يشتريها عند وصولها ويحرقها فتختفى من السوق.
■ كتبت فى أكثر من عمل لك حول «تكوين العرب الحديث» كما بحثت العديد من القضايا فى الفكر النقدى.. كيف يمكن للعرب أن يتخلصوا من إشكالياتهم الفكرية التى يرزحون تحت وطأتها منذ عقود؟ وفى ضوء المعطيات الراهنة، ما إمكانية تحقيق ذلك؟
- من الصعب جدًا أن يتخلص العرب من مشاكلهم الفكرية التى يرزحون تحت وطأتها منذ عقود من الزمن، نظرًا لعوامل أعتقد أنها أساسية، ومنها: انعدام الحريات بشكل عام وحرية التفكير خصوصًا قبل حرية الرأى وبعض الحريات الشخصية، فكل الواقع مكبل بالسلطات المتنوعة ليس شرطًا أن تكون سياسية، بل اجتماعية ودينية وعقائدية... إلخ، بالإضافة إلى انهيار المنظومة التربوية والتعليمية والتثقيفية منذ الطفولة وحتى الشباب، بحيث لا يعرف لا الهواة ولا المبدعون ولا الواعدون من أجل صقل مواهبهم وتنمية تفكيرهم وإطلاق إبداعاتهم ورعاية كل المؤهلين فى تخصصاتهم المتنوعة. ناهيكم عن أن السياسات الغبية عند العرب قد عبثت بالثقافة العربية والمثقفين الذين تجدهم ينحازون فى مواقفهم مع خطيئة اصطفافهم مع هذا الطرف أو ذاك.
وقد انتقل الإعلام أيضًا من حوزة السلطات السياسية إلى التعبير عن أحزاب ومافيات وجماعات ومنذ أكثر من ستين سنة تهيمن عليه أنظمة سياسية راديكالية أو أنظمة بترولية ريعية، كما حل الانقسام فى الفكر العربى مع ضعف الإرادة ودخول ظاهرة الإسلام السياسى الميدان بكل شناعاته المذهبية والطائفية.
أعتقد أن المشكلات الفكرية لا يمكن علاجها بسهولة، إذ تأخذ أزمنة من أجيال ثلاثة ستحيا فى القرن الحادى والعشرين مع انفجار سكانى تزداد كل يوم نسبة الجهلة فيه مقارنة بالوزن الديمغرافى العربى إبان القرن العشرين.
قلت إنك بصدد إصدار عمل آخر بعنوان «بقايا هيكل»..
ما الذى سيضمه هذا الكتاب؟ وما أبرز المغالطات التى ستسعى لتفكيكها فى خطابه وأطروحاته؟
- كتاب «بقايا هيكل» كان قد صدر منذ العام ٢٠١٠ متسلسلًا بشكل حلقات فى مؤسسة روز اليوسف بمصر، وأنوى نشره كاملًا مع كل الوثائق، وهو يضم نقدًا مباشرًا وتفكيكيًا للنصوص والأحاديث التى حكاها محمد حسنين هيكل على شاشة قناة الجزيرة على مدى سنتين أو ثلاث، وقد أخضعت كل أقاويله للدراسة وتعمقت فى فحص القرائن لأجد كل خطابه وادعاءاته محض هراء، إذ لا دور أساسى له فى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، ولم تكن له علاقته الحميمة بكل من محمد نجيب وجمال عبدالناصر. كذلك تأكدت أنه لم يستخدم أى وثائق كالتى أشار إليها، إذ رجعت إلى تلك الوثائق ففضحت أكاذيبه، وقد تابعت كل ما قاله من استطرادات وإسهابات عن أحداث جعل نفسه البطل فيها.