رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: «رائحة الخيانة».. هيلارى كلينتون تتفقد عملاءها من ميدان التحرير إلى الاتحادية

محمد الباز
محمد الباز

لا بد أن أعترف بأن يد الله كانت حانية علينا بأكثر مما نتصور، فلولا رعايته وفضله لأصبحنا فى غمضة عين مجرد أطلال وطن، نتصارع ونتقاتل على لا شىء.
ولا بد أن أعترف بأن حجم المؤامرة كان كبيرًا ومخيفًا ومتوحشًا، للدرجة التى دفعت كثيرين للتشكيك فيها، فليس معقولًا أن يتآمر أحد على أحد بكل هذا الفجور والانحطاط الإنسانى والسقوط السياسى.
ولا بد أن أعترف أيضًا بأننا نقف الآن عاجزين أمام ما تم الكشف عنه من وثائق أمريكية، ترسم دون عناء صورة لما كانوا يخططونه لمصر على يد جماعة الإخوان الإرهابية.
من السهل أن أضع أمامكم الرسائل التى تزاحمت فى البريد الإلكترونى لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلارى كلينتون- تولت منصبها فى الفترة ما بين ٢٠٠٩ و٢٠١٣- والتى يصل عددها على وجه التقريب إلى ٨٥ ألف رسالة، تم الكشف عن ٥٥ ألف رسالة منها، ولا تزال هناك ٣٠ ألفًا، أعتقد أنه من الصعب الكشف عنها أو حتى الاقتراب منها.
يمكننى بالطبع أن أدعوك إلى قراءة ما جاء فيها، بعد أن تنافست المواقع والقنوات الفضائية فى عرضها، لكن لدىّ لك عرض آخر.
فما سنفعله معًا هنا هو محاولة وضع هذه الرسائل، تحديدًا الرسائل التى تتناول الشأن المصرى، فى سياقها، وهو السياق الذى يكشف لنا عن أننا كنا نعيش، وما زلنا فيما أعتقد، أكبر مؤامرة يمكن أن تتعرض لها دولة فى العالم، وهى المؤامرة التى خططت لها ورعتها الولايات المتحدة الأمريكية، ونفذتها جماعة الإخوان الإرهابية.
دار جدل كبير حول هذه الرسائل التى تلقتها هيلارى كلينتون أثناء شغلها منصبها فى وزارة الخارجية الأمريكية، وهل هى رسائل حديثة، أم الرسائل التى تم الكشف عنها فى الفترة من ٢٠١٦ و٢٠١٩، وهل اهتمت الصحف الأمريكية بهذه الرسائل كما اهتمت الصحف فى مصر والخليج، وهل تم الكشف عنها الآن لإزاحة الستار عن مؤامرة جماعة الإخوان الإرهابية على مصر ودول عربية أخرى، أم جرى هذا فى إطار صراع انتخابى بين الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» ومنافسه مرشح الحزب الديمقراطى «جو بايدن»؟
بالنسبة لى، وأعتقد أنه بالنسبة لك أيضًا، لا تمثل هذه الأسئلة جميعها والإجابات عنها إلا هامشًا، فالمتن وهو نص هذه الرسائل الأهم، لأنه يمثل جزءًا من تاريخنا المخفى، وتخيل أننا كنا نتحرك على خريطة الوطن ولا ندرى ما الذى يُخطَط له، ننزل الميادين نهتف ونطالب، نمدح ونهاجم، نتمنى ونحلم، معتقدين أن الثورة ثورتنا، والغضب غضبنا، والحلم حلمنا، ثم نستيقظ على كابوس هائل، كنا فيه مجرد أدوات، أوراق لعب لا قيمة لها على الإطلاق.
الرسائل التى تلقتها هيلارى كلينتون على بريدها الإلكترونى تمثل وثيقة جديدة، تؤكد أن جماعة الإخوان الإرهابية، عبر قادتها، ارتكبت جريمة الخيانة العظمى فى حق الوطن، وأن رموزها، بداية من مرشدها محمد بديع، لم يكونوا إلا جواسيس، وأن محمد مرسى الذى ألقوا به رئيسًا فى طريقنا، لم يكن إلا عميلًا أمريكيًا، حتى قبل أن يصل إلى قصر الاتحادية.
قبل الرئاسة كان محمد مرسى رئيسًا لحزب الحرية والعدالة، وبهذه الصفة كان يحضر الاجتماعات التى يعقدها المجلس العسكرى مع الأحزاب والقوى السياسية المختلفة، ولم يكن مرسى يتخلف عن المهمة التى كُلف بها، وهى أن يكتب ما يجرى فى هذه الاجتماعات، التى كانت مغلقة فى الغالب الأعم، فى تقارير ويرسل بها إلى الإدارة الأمريكية.
جاسوس كامل كان محمد مرسى، ما فى ذلك شك، لكن ما جرى كان أكبر من ذلك.
الدخول إلى رسائل هيلارى لا بد أن يسبقه المرور عبر أكثر من باب.
لن أبتعد بكم كثيرًا، ولن أدخل بكم من أبواب سرية، كانت كلها أبوابًا علنية، تحركت فيها هيلارى بخطوات محسوبة دون أن نعرف إلى أين كانت تتجه.
كانت الإدارة الأمريكية قد قررت أن تستعين بجماعة الإخوان المسلمين لإزاحة نظام مبارك ضمن خطتها لمحاربة الإسلام بالإسلام.
كانت فكرة أوباما أن الإسلام المتطرف الممَثل فى الجماعات التكفيرية لا يمكن أن ينكسر إلا على صخرة إسلام معتدل، اعتقد أن جماعة الإخوان تمثله، وهو ما تم إقناع الأمريكان به عن طريق أحد عرّابى الخراب والفوضى فى مصر، وهو سعدالدين إبراهيم.
فى أحد حوارات سعدالدين إبراهيم كشف ما فعله، دون خجل ولا ندم.
ففى الفترة من ٢٠٠٠ إلى ٢٠٠٣ كان سعد الدين مسجونًا فى سجن طرة، وتصادف وجود عدد من الإخوان فى نفس الفترة، جمعته الصدفة بخيرت الشاطر بعد أن وصله أن خيرت يشيع أنه يتلقى معاملة مميزة.
يقول سعد: قلت له يا أخ خيرت أنت قاعد مالى السجن إشاعات، وبتقول إن الدبلوماسيين الغربيين يزورون أعضاء مركز ابن خلدون، ولا يلقون لأعضاء الإخوان أى اهتمام، فقال لى نعم، فقلت له: هل تريد أن يزوركم الدبلوماسيون الغربيون، فقال: ياريت، فقلت له: سوف أبلغ أول دبلوماسى غربى يزورنى هذه الرسالة.
بعدها بيومين زاره السفير الكندى «ميشيل ديلاسبرى» مندوبًا عن الدبلوماسيين الغربيين، أخبره سعد عن رغبة الإخوان فى اللقاء، فقال له: يا دكتور نحن نأتى لزيارتك هنا بناء على تكليف من حكوماتنا وبرلماناتنا، وذلك لموقف المركز من حقوق الإنسان والمرأة والأقليات والحريات العامة، فاسأل خيرت الشاطر إذا كان الإخوان لهم مواقف معروفة من هذه القضايا يبلغوننا بهذه المواقف، وأين نجد صحة ما يقولونه وتواريخه؟.
نقل سعد لخيرت ما سمعه، فقال له الشاطر: هو إحنا لازم نستخدم التعبيرات بتاعتهم، نحن لنا تعبيراتنا ولغتنا، سأله سعد عنها، فقال له: الإنصاف والعدالة والشريعة، فرد سعد: أنا مجبتش سيرة الحاجات دى، وما دمت تريد أن يهتم بكم المجتمع الدولى، فالمجتمع الدولى له لغة معينة، وعلى العموم ما على الرسول إلا البلاغ وأنا بلغته رسالتك.
فى يوم خروج سعدالدين إبراهيم من السجن التقى خيرت الشاطر ليودعه، وفوجئ به يقول له: يا دكتور ما وددت أن يحدث داخل السجن من لقاء بالدبلوماسيين الغربيين، أتمنى أن يحدث مع الإخوة خارج السجن.
بعد ثلاثة أيام فقط من خروج سعدالدين إبراهيم من السجن اتصل به عصام العريان.
يقول سعد: قال لى- العريان- «بلغنى من الإخوة فى السجن أنك سترتب لنا لقاء مع الدبلوماسيين الغربيين»، فقلت له: بالفعل أنا وعدت بذلك، فرد: وعد الحر دين عليه، فقلت له: أعطنى أسبوعًا وتوقع لقاءً قريبًا.
نجح سعدالدين إبراهيم فى عقد ثلاث جلسات بين الإخوان والدبلوماسيين الغربيين فى النادى السويسرى بإمبابة، وشارك فيها سفراء الدول الأوروبية وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، وعلى حد تعبير سعد: كانت هذه بداية علاقة الإخوان مع أمريكا والغرب فى عصر مبارك.
حاول الإخوان فى هذه الجلسات تقديم أنفسهم إلى الأمريكان بالصورة التى يريدونها، أكدوا لهم أنهم سيحترمون اتفاقية السلام وحقوق المرأة والأقليات، وبدا أنهم مستعدون لفعل أى شىء حتى يحصلوا على ثقة الأمريكان.
فى الفترة من ٢٠٠٣ وحتى العام ٢٠٠٩ كانت قد نضجت الفكرة لدى الأمريكان، وكان لا بد من تدشين الإخوان بمباركة الولايات المتحدة الأمريكية.
بدأت الخيوط تتجمع منذ العام ٢٠٠٥، وفيه أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كونداليزا رايس، عن أن الولايات المتحدة ليست ضد وصول الإسلاميين للسلطة فى مصر.
وربما لهذا تحديدًا جاء باراك أوباما إلى مصر، ووقف فى ٤ يونيو ٢٠٠٩ ليتحدث تحت قبة جامعة القاهرة.
أصر أوباما على دعوة ممثلين لجماعة الإخوان إلى خطابه، وأصرت السفارة الأمريكية على جلوسهم فى الصفوف الأولى، وهو ما استفز مبارك فرفض أن يشارك فيما اعتبره مهزلة، وكان طبيعيًا أن يعتبر المحللون الغربيون قبل المصريين أن ما فعله أوباما فى القاهرة بمثابة إطلاق إشارة بدء ليتحرك الإخوان نحو اقتناص السلطة فى مصر.
كان طبيعيًا أن تأتى هيلارى كلينتون إلى القاهرة، وهو ما جرى فى مارس ٢٠١١، بعد حوالى شهر من الإطاحة بمبارك، لا تنشغل كثيرًا بمن التقت ولا بماذا قالت، فما جرى كان بروتوكوليًا فى معظمه، ما توقفت عنده وقتها كان إصرارها على زيارة ميدان التحرير.
قبل ذهابها لاجتماع مع عصام شرف، رئيس الوزراء، قامت بجولة فى الميدان لم تكن مقررة فى برنامجها، كما كشفت السفارة الأمريكية وقتها، صافحت المواطنين، وقالت لمن التقتهم إنه حدث غير عادى بالنسبة لى أن أرى أين انطلقت تلك الثورة بكل ما أصبحت تعنيه للعالم.. وإنه أيضًا تذكِرة عظيمة بقوة الروح الإنسانية والرغبة فى الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية.
حاولت هيلارى أن تبدو وكأنها تبارك الثورة التى صنعها الشعب المصرى، الذى من المفروض أن يقرر هو الطريق الذى يسلكه أو يسير فيه، ألمحت إلى ذلك وهى تقف إلى جوار السفير نبيل فهمى، وزير الخارجية وقتها، قالت موجهة كلامها إلى الشعب المصرى: لقد كسرتم القيود وتغلبتم على العقبات فى سعيكم لتحقيق حلمكم فى الديمقراطية، والولايات المتحدة والرئيس أوباما وأنا سنقف إلى جانبكم فى رحلتكم هذه، ولكن هذه اللحظة التاريخية تعود لكم، فهذا هو إنجازكم.
أثارت زيارة هيلارى إلى القاهرة استياء كثيرين كانوا يقفون على حدود أحداث يناير، وبعض من شاركوا فيها، لدرجة أن بعض الموجودين فى ميدان التحرير هتفوا ضدها، تندرنا على ذلك وقتها، دون أن ندرى أنها كانت كاذبة فى كل ما تقوله، فلم يكن صحيحًا أنها كانت تتعامل مع ما جرى على أنه إنجاز للشعب المصرى، وعليه فمن حقه أن يتركه الآخرون ليحدد ما يريد ويختار من يشاء.
ظهرت هيلارى كلينتون مرة أخرى على رادار الحياة السياسية فى مصر فى ٢٠ يونيو ٢٠١٢، أى قبل أيام قليلة من إعلان فوز محمد مرسى فى الانتخابات الرئاسية.
كانت هيلارى تشارك فى اجتماع حضره وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، جيمس بيكر، قالت فيه: من الضرورى أن يفى الجيش المصرى بالوعد الذى قطعه على نفسه أمام الشعب بتسليم السلطة إلى الفائز الشرعى فى الانتخابات التى جرت يوم الأحد ١٧ يونيو، فما قامت به السلطات العسكرية المصرية خلال الأيام الماضية يعد من الأمور المزعجة بوضوح، وعلى الجيش أن يتبنى دورًا مناسبًا غير التدخل والهيمنة، أو محاولة إفساد السلطة الدستورية.
لم تتوقف هيلارى كلينتون عند هذا الحد، راحت بعد ذلك تهاجم قيادات المجلس العسكرى عندما قالت: إن العسكريين الذين يحكمون مصر لم يكفوا عن قول الشىء فى العلن، ثم التراجع عنه فى الخفاء بطريقة ما، لكن رسالتنا هى دائمًا نفسها، يجب أن يحترموا العملية الديمقراطية.
لم يكن كلام هيلارى كلينتون عفويًا أو عشوائيًا، كانت تصيغ قواعد المعركة مبكرًا، أرادت أن تضع المجلس العسكرى فى خانة اليك، كانت تعرف أن الجيش أوفى بوعده وباشر الانتخابات البرلمانية التى تمهد الطريق إلى نقل السلطة للرئيس، وأن الجيش لم يعطل التحول الديمقراطى، لكنها خططت منذ البداية إلى ما عادت إلى القاهرة من أجله فى ١٤ يوليو ٢٠١٢، بعد أيام قليلة من دخول محمد مرسى إلى قصر الاتحادية.
أعدت جماعة الإخوان استقبالًا سياسيًا يتناسب مع المهمة التى جاءت من أجلها هيلارى، فمن طرف خفى حرّضت على تنظيم مليونية جعلوا عنوانها: «إسقاط الإعلان الدستورى المكمل»، وهو الإعلان الذى أصدره المجلس العسكرى ساعيًا من خلاله إلى تنظيم دوره وتحديد اختصاصاته، وشارك فى هذه المليونية: حركة حازمون و٦ أبريل وعدد من القوى السياسية الأخرى، مثلت ضغطًا على المجلس العسكرى ليسلم السلطة، رغم أنه على الأرض كان ماضيًا فى تنفيذ ذلك.
التقت هيلارى كلينتون محمد مرسى فى قصر الاتحادية، وكان مرتبًا أن تلتقى بالمشير طنطاوى، لكنها قبل أن تفعل ذلك صرحت بأنه حان الوقت ليسلم المجلس العسكرى السلطة كاملة إلى الرئيس المنتخب.
عندما جلست هيلارى كلينتون أمام المشير طنطاوى فى وزارة الدفاع، صباح الأحد ١٥ يوليو ٢٠١٢، قالت له: نتمنى أن يتم تسليم السلطة كاملة إلى الرئيس فى أقرب وقت ممكن، ليعود الجيش إلى ممارسة دوره فى حماية البلاد.
لم يلتفت المشير طنطاوى إلى ما ألمحت إليه هيلارى، قال لها: نحن صادقون فيما وعدنا به، ورغم كل الضغوط التى مورست علينا والمؤامرات التى استهدفت إفشالنا فإننا صممنا على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية بنزاهة وشرف.
حاولت هيلارى كلينتون أن تقاطع المشير، قالت: ولكن حتى الآن لم يجر تسليم السلطة كاملة للرئيس المنتخب، فرد عليها: الجيش ليس طامعًا فى السلطة، ونحن مسئولون بمقتضى الإعلان الدستورى الصادر فى مارس ٢٠١١ فى حال غياب مجلس الشعب، وبمجرد انتخاب مجلس الشعب الجديد فى ضوء الدستور الجديد سوف نسلم السلطة التشريعية على الفور إلى البرلمان.
كان واضحًا أن هيلارى جاءت لتضغط وبشكل مباشر على المجلس العسكرى، قالت للمشير: ولمَ لا يجرى تسليمها إلى الرئيس المنتخب؟
بدأ المشير فى الشرح مرة أخرى، معتقدًا ربما أن هيلارى لا تفهم الوضع على الأرض، قال لها: الرئيس مسئول عن السلطة التنفيذية، أما السلطة التشريعية فى غياب مجلس الشعب فتبقى فى حوزة المجلس العسكرى إلى حين انتخاب المجلس، وقد فعلنا ذلك من قبل فى ٢٣ يناير الماضى عندما سلمناها للمجلس المنتخب، لكن بعد حل المجلس عادت السلطة مرة أخرى إلى المجلس العسكرى.
كانت هيلارى تعرف وجهة نظر المجلس العسكرى، لكنها جاءت لتصنع واقعًا جديدًا، ودون أن تدرى كشفت عن كونها مجرد مندوب للجماعة الإرهابية يتحدث باسمها وينقل وجهة نظرها.
قالت للمشير طنطاوى: إنهم يشتكون من خطورة الإعلان الدستورى المكمل، ويرون أن المجلس العسكرى يسعى إلى الانتقاص من سلطات الرئيس المنتخب.
وقالت له: الإخوان يتحدثون عن تدخلكم لحل مجلس الشعب حتى تعود إليكم السلطة التشريعية.
حاول المشير طنطاوى أن يصحح الصورة لهيلارى، قال لها: المحكمة الدستورية هى التى أصدرت الحكم، ولا علاقة للمجلس العسكرى بأحكام القضاء، ودورنا اقتصر فقط على إصدار قرار تنفيذى لهذا الحكم النهائى البات.
لم تأت هيلارى لتسمع هذا الكلام الذى لم يعجبها بالطبع، كانت قد عزمت أمرها، وواصلت الضغط، قالت للمشير ولمن حوله ممن حضروا هذا الاجتماع، وكان من بينهم اللواء عبدالفتاح السيسى، رئيس المخابرات الحربية وقتها: لا بد أن أعرب لك عن قلق الولايات المتحدة من إصرار المجلس العسكرى على التدخل فى شئون الحكم ومحاولة الانتقاص من سلطات الرئيس المنتخب.
بدا للموجودين هدف زيارة هيلارى إلى القاهرة، وهدف وجودها فى وزارة الدفاع، وهدف حديثها إلى قيادات المجلس العسكرى بهذه الطريقة، ولذلك حسم المشير طنطاوى الأمر، قال لها: نرفض هذا الكلام، ونرفض التدخل فى العلاقة بين الجيش ورئيس الدولة، أنا لا أرى أى مشكلة وعلاقتنا بالرئيس جيدة، وكنا صادقين مع الشعب المصرى فى كل الوعود، ولا أفهم معنى محاولات التحريض ضد الشعب.
وضع المشير طنطاوى هيلارى كلينتون أمام الحقيقة التى حاولت أن تزينها، فكلامها ليس إلا تحريضًا على الجيش، وهو ما جعلها تحاول تخفيف لهجتها فى الكلام، قالت: نحن لا نسعى إلى التحريض، لكننا نسعى إلى وضع حد للمشكلات الناشبة بين المجلس العسكرى ورئيس الدولة.
كانت عبارة هيلارى الأخيرة مستفزة، وهو ما دعا المشير طنطاوى إلى أن يقول لها بوضوح: لا يحق لأحد أن يحدد لنا دورنا فى بلدنا.
ما قاله المشير طنطاوى بعد ذلك يساعدنا على معرفة جزء من المؤامرة التى بدأت على مصر منذ سنوات، قال لهيلارى: ليس لنا أى مطمع فى السلطة، ونحن نعترض على تصريحك بدعوة الجيش إلى تسليم السلطة والعودة إلى دوره فى حماية الأمن القومى، نحن لم نسع إلى السلطة، هى التى جاءت إلينا وأنتم اتصلتم فى هذا الوقت، وقلتم إنكم لستم معترضين على تولى الجيش مهام السلطة فى البلاد عقب تنحى الرئيس السابق، لذلك لا نفهم معنى هذا التحريض وتصوير الجيش وكأنه اغتصب سلطة الرئيس.
لم تتزحزح هيلارى عن هدفها خطوة واحدة، قالت: نحن على ثقة أنكم ستسلمون السلطة التى فى حوزتكم فى أقرب فرصة إلى الرئيس.
شرح لها المشير مرة أخرى: لدينا إعلان دستورى يحدد اختصاصاتنا، والجيش مسئول عن حماية البلاد وأمنها إلى أن يتم الانتهاء من وضع الدستور، ثم تجرى انتخابات مجلس الشعب، ساعتها سوف نعود إلى ثكناتنا.
وصلت المواجهة إلى أقصاها، تحولت هيلارى إلى ما يشبه التهديد، قالت: ما تقوله من شأنه أن يفتح الطريق أمام صراع مفتوح، لقد شاهدت مظاهرات كبيرة فى ميدان التحرير تطالبكم بتسليم السلطة وإلغاء الإعلان الدستور المكمل.
المسرحية كانت مكتملة إذن، يعد الإخوان، من خلال حلفائهم، مليونية فى ميدان التحرير، لتتحدث عنها هيلارى كلينتون بعد ذلك، على اعتبار أنها مظاهرات شعبية وليست مدفوعة أو مدبرة، وهو ما حسمه المشير عندما قال لهيلارى: نحن نعرف من يحرك هذه المظاهرات.
حاولت هيلارى أن تراوغ أكثر، تحدثت عن لقائها مع محمد مرسى، قالت إنه كان مثمرًا، وإنه تحدث معها عن حقوق المرأة والأقليات وتطوير العملية السياسية وحقوق الإنسان، وبخبث أضافت: ولكن الإعلان المكمل ربما يحد من طموحاته.
سخر المشير طنطاوى من هذه المحاولة، قال لها: لا علاقة للإعلان الدستورى المكمل بممارسة الرئيس اختصاصاته ومهامه بالكامل، المسألة لن تزيد على أشهر قليلة ونسلم الاختصاصات للبرلمان.
بعد ساعات قليلة من هذا اللقاء، كان المشير طنطاوى يتحدث فى حفل تسليم وتسلم قيادة الجيش الثانى الميدانى فى الإسماعيلية، ومن هناك قال: مصر لن تسقط، وليست لمجموعة بعينها، وإن القوات المسلحة لن تسمح بذلك.
عندما تراجع أداء هيلارى كلينتون وما فعلته من أجل مرسى والإخوان ليتسلموا السلطة، التى اعتقدوا أنها منقوصة، لن تتعجب أبدًا مما جاء فى رسائلها الإلكترونية.
لقد جاءت هيلارى إلى مصر مرتين، الأولى لتقابل عملاءها وعلى رأسهم محمد مرسى، وفى الوقت نفسه كانت تحرك كل الخيوط من بعيد، حيث مكتبها فى وزارة الخارجية الأمريكية.. وهذه قصة طويلة سنرويها معًا.