رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على سعدة يكتب:هوامش على دفتر النصر

على سعدة
على سعدة

منذ نعومة أظفارنا نحن أبناء المدينة الباسلة تعودنا على أزيز الطائرات المرعب وإسقاطها القنابل عشوائيًا على المنازل، وكل ما كنا نفعله هو تغطية زجاج المنازل بالزهرة الزرقاء أو بالجلاد الأزرق لحجب الأضواء، مع تخفيض الإضاءة للحد الأدنى الذى لا يتجاوز الشمعة التى تكفى بالكاد السير بحذر داخل المنزل وقراءة القرآن الكريم أو الإنجيل والأدعية على اليهود.
تكرر ذلك فى حربى ٥٦ و٦٧، وازدادت الوتيرة فى حرب الاستنزاف التى بدأت عام ٦٩ وانتهت بحرب التحرير الكبرى فى أكتوبر ٧٣.
هناك مشهد محفور فى ذاكرتى عندما كنت ألعب الكرة مع بعض أصدقائى عام ٦٨ على شاطئ مدينة بورسعيد أمام فندق الهيلتون ذى الطوابق التسعة.. فجأة رأينا طائرتين إسرائيليتين فوقنا، ورأيت بعينى صاروخين يسقطان منهما نحونا، انبطحت أرضًا وقرأت الشهادتين، فالصاروخان اتجاههما تحديدًا على أم رأسى.. ودوى انفجار رهيب نزفت منه أذناى وبعد انقشاع التراب رأيت الصاروخين يخترقان مبنى الهيلتون تاركين فتحة قطرها لا يقل عن عشرة أمتار فى منتصف المبنى- الذى أُزيل بالكامل فيما بعد وتم بناء فندق هيلنان مكانه.
قررت القيادة السياسية بعد تلك الواقعة المؤلمة حتمية تهجير أهالى المدينة كى تتمكن القوات المسلحة والدفاع الجوى من السيطرة الكاملة وتأمين حدود البلاد، خاصة أن العدو المجرم قام بضرب مدرسة بحر البقر وقتل الأطفال الأبرياء بدم بارد دون رحمة أو شفقة.
تقبل أهالى المدينة الباسلة القرار بالترحاب وتم التهجير إلى القرى والنجوع والمدن القريبة داخل أنحاء الجمهورية أملًا فى سرعة العودة، كل حسب إمكانياته المادية والاجتماعية.
معظم البورسعيدية يمتهنون مهنة الصيد أو البمبوطية «man boat» ورزقهم يومى وليست لديهم ثقافة التوفير.. فكنا نرى الكثير من المواطنين وقتها يبيعون أثاث منازلهم بقليل القليل، ليتمكنوا من الهجرة مع القليل من المال.
استقبلهم الجميع بالترحاب والتآخى والتراحم ستة أعوام كاملة إلى أن تحررت سيناء فى حرب ٧٣ وتقرر إعادة المهجرين إلى منازلهم عام ٧٥ مع تحويل بورسعيد إلى منطقة حرة مكافأة من الدولة لأبناء المدينة الذين عانوا الأمرّين من الحروب المتعاقبة.
مر على ذاكرتى هذا الشريط السريع من المعاناة وقارنته بما يجرى حاليًا لمدينتى الجميلة، المنطقة الحرة التى كانت منحة من السادات، رحمه الله، تم القضاء عليها بالتدريج إلى أن انتهت تمامًا.. الرجل المسكين الذى حاول تقديم شكوى أثناء سير موكب الرئيس الأسبق مبارك قتله الحرس الجمهورى ظنًا منهم أنها محاولة لاغتيال الرئيس، وقامت الدنيا ولم تقعد ولم يدخل مبارك المدينة من يومها إلى أن توفاه الله غاضبًا عليها.
الحادث المجرم فى استاد بورسعيد الذى دبره زبانية الإخوان وكبيرهم خيرت الشاطر مع بعض مجرمى الألتراس المرتشين من الطرفين لعزل المجلس العسكرى، الذى أسفرت التحقيقات والاعترافات عن ضلوع كلاب حماس فيه صار مبررًا قويًا لحرمان النادى المصرى البورسعيدى- المتنفس الأوحد للبورسعيدية- من اللعب على ملعبه حتى الآن رغم أن القرار المجحف كان حرمان بورسعيد لمده ٥ أعوام فقط، إلا أن هناك من لا يزال يحمل الحقد والغل لأهالى المدينة المظاليم، وتحميلها فداحة الجرم الذى هى منه براء.
بورسعيد هى أول من تمرد على مرسى العياط، وأعلنوا عن استقلال المدينة عن حكمه، بل تحدوا قراره بمنع التجوال ورغم وطنيتهم المفرطة وعشقهم الجنونى لتراب الوطن ما زالوا الأقل حظًا والأكثر معاناة بين محافظات المحروسة.. يبدو أن قدر المدينة أن تظل باسلة.