رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوسف رخا: لغة «بانفيل» تستند إلى تاريخ طويل وثري من الصياغة الشعرية

يوسف رخا
يوسف رخا

عن دار روايات التابعة لمجموعة كلمات الإماراتية٬ صدرت مؤخرا النسخة العربية٬ لرواية الكاتب الأيرلندي جون بانفيل "كتاب الشهادة" بترجمة أنجزها الكاتب المصري يوسف رخا.

وحول الرواية وترجمتها قال "رخا" في تصريحات خاصة لـ"الدستور": رواية "كتاب الشهادة" كما سمّيتُها بالعربية رغم أن الترجمة الحرفية قد تكون "كتاب الأدلة" ولكن المقصود هو الإدلاء بالشهادة من جانب بطل الرواية.

وهي إحدى أشهر أعماله وأول ظهور لأحد شخصياته الفريدة المتكررة: عالِم الرياضيات الأرستقراطي الفاسد فريدي مونتجومري الذي ارتكب جريمة قتل عبثية ثم اختبأ مورطًا معه أحد أصدقاء العائلة قبل أن يُقبض عليه، وهو ليس بطلها فقط ولكن أيضًا راويها الشاهد على نفسه وإن لم يكن يُعوَّل على شهادته.

نُشرت بلغتها الأصلية سنة 1989 وأنا في الثالثة عشر من عمري ولم تُنقل إلى العربية منذ ذلك الحين، لا هي ولا غيرها من أعمال بانفيل المولود عام 1945 في حدود علمي، ولا حتى البحر الفائزة بجائزة بوكر سنة 2005.

وتابع "رخا": أنا فرحت من قلبي لما كتب لي محرر دار روايات التابعة لمجموعة كلمات الإماراتية، الشاعر السعودي أحمد العلي، ليَعرض علي ترجمة "كتاب الشهادة"، لأنني استشعرتُ في اختياري للتعامل مع جون بانفيل دون غيره وعيًا صائبًا بالمساحة التي أشغلها بين لغتين كشخص معنيّ أساسًا بالأدب وليس بأحدث ما يُنشر بالإنجليزية ولا أكثره إثارة للضجة، هذا فَضلًا عن ثقة أحمد في حد ذاتها طبعًا.

أما عن مؤلف الرواية يوضح رخا: جون بانفيل أنا أقرأ له منذ أواخر التسعينات وأستسيغ ليس فقط لغته الباهرة - فهي غنائية وساخرة في آن، تستند إلى تاريخ طويل وثري من الصياغة الشعرية والمسرحية لإنجليزية الأيرلنديين المحكية، لكنها تتجاوز ذلك التاريخ في اتصالها بالأدب الأمريكي المعاصر على وجه الخصوص - ولكن أيضًا حسه العبثي بالنفس الإنسانية وانفتاحه على أوروبا بأسرها كمنبع للثقافة والهوية الثقافية ثم تركيزه على ضرب بالغ الخصوصية من ضروب الخلاف العائلي يخص الأيرلنديين الموسرين من الكاثوليك الأشبه بالبروتستانت.

في كتابة بانفيل أعماق وإحالات وطبقات مجازية أبعد من فكرة الحدوتة الشيقة أو الموضوع الشائك أو حتى البلاغة الأدبية، وهي على مستوى اللغة وحده جديرة بأن يجاهد معها الواحد شهورًا، حيث لا تمنح نفسها بسلاسة لوسيلة تعبير ثقافة أخرى. لكن التعامل مع لغة مرهفة كهذه يستدعي فهمًا لدقائق الصياغة والنبرة مَثَّل لي التحدي المطلوب بالضبط، وربما لا يكون كل هذا خطر لأحمد العلي أو سواه من القائمين على دار روايات، لكن بدا لي أن في تكليفي بترجمة بانفيل تقديرًا صادقًا لقدراتي واهتماماتي الفريدة، وكان هذا على طرف نقيض من عروض ترجمة أخرى تلقّيتها في السنوات الأخيرة لكتب لا يمكن أن تعنيني لدرجة أن أقضي معها الوقت ولا أنفق عليها الجُهد الذي يقتضيه نقلها عن الإنجليزية.

هذا أول عمل أدبي كامل أترجمه، ومع احترامي لمن يستسهلون الترجمة الأدبية فلا يهتمون بغير فصاحة النص العربي وتطابق المعنى وإن ظل حرفيًا، أعتبر ترجمة عمل أدبي كإنتاج مثل هذا العمل تماما، وأدخر لها من التفرغ والبحث وغيرهما من أسباب الإبداع كل ما أدخره لنصي وربما أكثر. وأعتقد أن النتيجة فعلًا مرضية.

شيئان أريد أن أذكرهما دون أن أتكلم عن الرواية نفسها: أتذكر بحنين ومحبة أيام كنت أحمل جهاز اللابتوب إلى جوار حمام السباحة في الصباح الباكر فأسبح ساعة ثم أترجم 3 ساعات متواصلة: كنت أسلّم نفسي للنص الإنجليزي والمعاجم العربية (لسان العرب على وجه الخصوص)، وكنت أطرب للصياغات التي أتوصل إليها كمعادلات فعالة لما يتلبسني من شغل بانفيل. لا سبيل إلى الانغماس التام في عمل أديب ما أنجع من ترجمة ذلك العمل من لغة إلى أخرى يعرفهما الواحد معرفة عميقة.

هناك وشائج اتصال لم أكن حسبت لها حسابًا بين رواية كتاب الشهادة وآخر أعمالي الأدبية "باولو" (التنوير 2016 - جائزة ساويرس 2017)، فكلاهما عبارة عن اعتراف سردي من جانب مجرم يخاطب الجهة الرسمية المنوط بها عقابه، وكلاهما يمزج غنائية عالية بسخرية منحطة ويركز على أسوأ ما في علاقات ودوافع البشر، ولكليهما بطل راو مختل ومهووس بنفسه لا يعول على صدق روايته.

ومن أجواء الرواية: "هكذا جلست في مشرب والي وشربت، وتحدثت إلى والي عن هذا وذاك – ونصيبه من الحديث لا يتعدى هزة الكتفين والنخرة البليدة أو، بين حين وآخر، شهقة الضحك المكتوم الحاقدة – وبالتدريج هدأ الطنين الذي دائمًا ما يطلقه في رأسي السَفَر. شعرت كأني، بدلًا من ركوب السفن والقطارات، أُنزِلتُ إلى هذه البقعة أخيرًا عبر الهواء بطريقة ما، وأنا أحس بالثَمَل والسعادة وبأني عُرضة للأذى بشكل لطيف يربو على الشهوانية. السنوات العشر التي أمضيتها أتجول بلا توقف كانت كأنها لا شيء، رحلة في حلم، وهم عابر. وكم بدا كل ذلك قَصِيًّا: تلك الجزر في بحر أزرق، تلك الظهائر الحارقة، راندولف والسنيور أغويرا... حتى زوجتي وابني، كم كانا قصيين. وهكذا حدث أنْ حييت "تشارلي فرينش"، حين دخل، كما لو أني رأيته فقط بالأمس.