رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«من الحديدة للحديدة».. والأمن القومى!


جاءت ذكرى زيارة الرئيس الأسبق السادات إلى القدس، وما عرف بمبادرة السادات، لتثير المناقشات حولها، وقد تابعت بعض الحديث حولها، واستلفت نظرى ما جاء على لسان الدكتور محمد عبد اللاه من شرح السادات له لما اعتبره «مبادرة السلام» من أنه فلاح، وأن ما يهمه هو أن يسترجع أرضه» من «الحديدة للحديدة» قاصداً قطعة الحديد التى يضعها أفراد المساحة لتحديد حدود ملكية

الأرض الزراعية، وكدت أسلم بأن الرئيس السابق قد غلبت عليه الطبيعة الريفية بالاهتمام بالأرض وبغض النظر عن أى شىء آخر. لكنى سرعان ماتساءلت عن صحة هذه المقولة، وما إذا كان ما يهم الفلاح هو حق الملكية واستعادة الأرض، وأن الباقى تفاصيل يمكن أن تترك إلى من يتابعها. فقد رأيت أن الفلاح بحكم طبيعة الأرض وبحكم ظروف مصر يهتم بأشياء كثيرة أخرى غير الحديدة التى أشار إليها الرئيس الأسبق، بل إن أهم ما شكل مصر على مدى التاريخ كان توزيع المياه، والتى سببت الإدارة المركزية للدولة، وهى التى جعلت مصر فرعونية، حيث كان الفرعون قائماً على توزيع موارد المياه فى بلد يعتمد على نهر يشق طريقه فى وسطه، وهنا نجد ما يشابه ذلك على مستوى الفلاح وقطعة أرضه، حيث يهتم الفلاحون بتأمين مكان الساقية وكثيراً ما كانت الساقية عنصراً للنزاع بين المزارعين.

كذلك فإن هذا الفرعون لم يستطع أن يكتفى بالأرض من «الحديدة للحديدة» حسب مفهوم الرئيس الأسبق، بل سرعان ما أدرك ضرورة تأمين الحدود والتخوم، لذا وجدنا جيش مصر على مدى التاريخ قاتل خارج أرضه، وكانت معاركه على تراب مصر فى فترات الضعف فقط، وأن الفرعون كان بالدرجة الأولى قائداً أعلى وعاماً للجيش المصرى. وقد استمر هذا المفهوم حتى مع تولى الحكم فى مصر بغير المصريين فقد أدركوا جميعاً أهمية تأمين الحدود والتخوم بحيث لم يتركوا قوة يمكن أن تهدد مصر، أى أنهم لم يكتفوا بالاحتفاظ بالمساحة «من الحديدة للحديدة» وإنما اهتموا بتأمين المناطق خارج الحديدة، ويمكن القول بأن هذا السلوك هو الذى يمكن اعتباره الاستراتيجية العسكرية لحكام مصر من عهد مينا موحد القطرين، وأن هذا كان انعكاسا لسلوك الفلاح االمصرى حقيقة، وليس كما قال الرئيس الأسبق.

كذلك فإن الفلاح المصرى يهتم بلا شك بالطرق التى تشكل منفذه ومنفذ أرضه إلى العالم الخارجى، فالأرض وحدها لا تكفى وإنما يجب أن يؤمن طريقاً له للوصول إلى الأرض ولجلب متطلبات الأرض وتسويق منتجاتها، ويعتبر الطريق إلى الأرض أحد أهم عناصر النزاعات فى الريف بين الفلاحين، وينطبق هذا على أرض مصر كما ينطبق على أرض الفلاح، حيث تهتم مصر بتأمين خطوط المواصلات، وقد اكتشف الفراعين الأوائل أهمية ذلك، وعملوا على تامين خطوط المواصلات ولا سيما خطوط المواصلات البحرية حيث موقع مصر الجغرافى وإطلالها على كلا البحرين المتوسط والأحمر، وهكذا ظهر إلى الوجود الأسطول البحرى المصرى وخاض معارك بحرية مع اساطيل دول أخرى، ومرة أخرى نجد أن نظرية «الحديدة للحديدة» غير مناسبة لا للفلاح المصرى ولا لحاكم مصر، وليس هذا انتقاصاً لأهمية السيادة على الأرض واستعادتها، وإنما هو تنبيه لخطورة الانسياق حول تجزئة نظرية الأمن القومى المصرى، واعتبار أن المهم هو جلاء قوات العدو وقوات الاحتلال عن الأرض المصرية فأمن مصر له عناصره الأخرى التى تشكل عنصراً أصيلاً من عناصره إضافة إلى تحرير الأرض.

هنا أذكر ما يقوله كثيرون بأنه لولا مبادرة السادات لظل الاحتلال الإسرائيلى حتى الآن، وأن الزمن قد أثبت بعد نظر السادات، وهو ما اختلف معه كثيراً، خاصة أن الرئيس السادات أكمل نظرته للأمن القومى بالقول بأن تسعة وتسعين فى المائة من أوراق الحل فى أيدى الولايات المتحدة الأمريكية، وهكذا أكمل نظرته الخاصة بالحديدة بأن اختزل القدرات المصرية والقومية والدولية لتمسك بواحد فى المائة فقط من قدرات الحل، أى أننا لكى نحصل على أرضنا «من الحديدة للحديدة» لا بد أن يسلمها لنا أبناء العم سام، وقد كان يمكن أن يكون هذا صحيحاً لو أننا استكنا واستكانت الأمة العربية وانتظرت أن يأتيها الحل على طبق قد يكون من فضة وقد يكون ميلامين!.

ربما جاءت زيارات المسئولين الروس أخيراً لتذكر إخواننا بأن هناك لاعبين آخرين يمكن أن يمسكوا ببعض أوراق اللعبة لو أراد أصحابها أن يكونوا جادين فيها، وأن تعبير «لو» لا يصلح للاستخدام فى السياسة بأثر رجعى فهو يتطلب تثبيت باقى العناصر وهى كلها متحركة، والآن يجب ألا نكتفى بحل « من الحديدة للحديدة».

■ خبير سياسى وعسكرى