رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مريم المصرية.. رؤية أخرى للسيدة العذراء» «14»

محمد الباز يكتب: إنهم يغنون للعدرا

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز


قالها لى القمص الهادئ: تصور إنى سمعت واحدة كانت بتغنى فى المولد بتقول: الرقصة دى للعدرا... والرقصة دى لمار مرقص.
لم يكن منفعلا... كان يتحدث بأسى شديد عن المخالفات التى رصدها بنفسه فى المولد الذى يقام سنويًّا أمام كنيستها، وتتحول فيه الدنيا إلى فوضى عارمة، تصل إلى فناء الكنيسة، لكنه لم يكن يتخيل أبدًا أن تصل هذه الفوضى إلى العبث مع السيدة مريم بهذه الصورة.
كان تصرف القمص عفويًّا جدًّا.
طلب من المسئول عن الفرقة التى تعمل ضمنها من تجاوزت فى حق العذراء أن يغادروا المولد فورًا، لكن ولأنه لا يملك سلطة عليهم، ولأنهم فى النهاية بسطاء لا يقدرون مدى فداحة الجرم الذى ارتكبوه، اكتفى بالتفاهم معهم، على ألا يأتوا على اسم السيدة مريم أو صفتها فيما يغنون، وقد التزموا تمامًا لأن الأمر بالنسبة لهم أكل عيش، ولأنهم يحرصون عليه، فقد نزلوا على ما يريده القمص.
"الرقصة دى للعدرا... والرقصة دى لمار مرقص".
لم أثبت هذه الجملة بنصها هنا سعيًا إلى تجاوز من أى نوع، فالواقعة حقيقية، وقفت على أبعادها منذ أعوام طويلة، وظلت مخبوءة فى ذاكرتى لا تغادرها، وقد حاولت الإفراج عنها أكثر من مرة، حتى جاء وقتها الذى هو الآن تحديدًا. 
كنت أحقق فى بعض ما نسب إلى كاهن كنيسة العذراء بمسطرد القمص عبدالمسيح بسيط، وكان أحدهم قد نسب إليه أنه ألغى الاحتفال بالمولد الذى يقام كل عام أمام الكنيسة، دون أن يبدى لذلك سببًا وجيهًا أو مقنعًا، وهو ما جعله فى مرمى القصف.

 

قابلت بسيط وهو رجل طيب وودود جدًّا فى مكتب الأنبا مرقص أسقف شبرا الخيمة.
بانفعال محسوب اعتبرته أنا هدوءًا شديدًا قال عبدالمسيح: أنا لم ألغ المولد ولا أستطيع أن أفعل ذلك من الأساس، فالقرار ليس قرارى، وحتى لو أردت ذلك فلن يسمح لى الناس، أنا فقط حافظت على قدسية السيدة العذراء مما كان يحدث لها.
كان الكلام غريبًا بعض الشيء، إذ ما الذى يضير السيدة العذراء من مولد يقام لها، مثله فى ذلك مثل بقية موالدها فى محافظات مصر.

 

نظر بسيط إلى الأنبا مرقص وقال له بأسى: تصور يا سيدنا أنا كنت قاعد فى مكتبى فى الكنيسة، وكانت فيه فرقة بتشتغل من فرق الموالد دى، وفجأة سمعت فى الميكروفون الرقاصة ولا المغنية مش عارف بالظبط، بتقول: والراقصة دى للعدرا والرقصة دى لمار مرقص، تصور يا سيدنا.. تصور.
ابتسم الأنبا مرقص، وهو الرجل الهادئ والمتسامح دائمًا، استوعب غضب بسيط الذى لم يمكن باديًا لى فى الحقيقة بطريقة عبقرية.
قال له: هدى نفسك، أكيد هى لا تقصد الإساءة للسيدة العدرا، هى اتكلمت على قد فهمها، وممكن تكون كانت عايزة تعبر عن حبها لها مش أكتر.
هنا انتهى الاستيعاب لتبدأ المداعبة التى رأيت أنها فى مكانها تمامًا، قال الأنبا مرقص: وبعدين يا أبونا الست دى اللى منعرفش هى رقاصة ولا مغنية أكيد مش دارسة لاهوت دفاعى زيك، عشان تعرف إيه الصح وإيه الغلط فى حق ستنا مريم.

 

ابتسم الموجودون فى جلستنا التى لم تكن رسمية، لكن القمص عبدالمسيح بسيط لم يتراجع عما اعتبره غضبًا مستحقًّا وواجبًا، قال: مش للدرجة دى يا سيدنا مش للدرجة دى.
أغلق مرقص الحديث فى هذه النقطة مهونًا على تلميذه الذى كان قد أجرى اتصالاته لتغادر هذه الفرقة من المولد فورًا، لكن التفاهمات جعلت الفرقة تكمل عملها دون أن تقترب من السيدة العذراء أو القديسين مرة أخرى.
الواقعة على وضعها هذا بالنسبة لى كانت شديدة الدلالة.

 

رجل الدين هنا قام بعمله على الوجه الأكمل، استمع إلى إساءة واضحة ومباشرة من وجهة نظره فى حق السيدة العذراء، فتصرف بالطريقة الوحيدة التى يعرفها وهى المنع التام، لا حوار ولا حديث ولا نقاش، والراقصة أو المغنية التى وهبت من عندها رقصة للسيدة العذراء ورقصة للقديس مار مرقص، أدت دورها وما عليها كاملًا، ولا يمكن أن نلومها على ما فعلت، وإن كان هذا لا يمنعنا بالطبع من نصحها وتعريفها ما يجب وما لا يجب.
لقد أرادت هذه الراقصة أن ترضى السيدة العذراء فى مولدها، أن تهديها بأفضل ما عندها، ولأن الرقص هو أثمن وأغلى وأهم ما تملكه، فقد وضعت رقصتها فى خدمة ستنا مريم، وأعتقد أنها تعجبت عندما وجدت نفسها وفرقتها مهددة بالطرد من المولد، لأنها من وجهة نظرها لم ترتكب أى خطأ، بل كانت تنتظر من يشكرها على ما فعلته.

 

يمكن أن تعترض على ما أقوله، تعتبره إمعانا فى الإساءة، أو على الأقل دفاع عمن أخطأت وأساءت الأدب فى موضع لا مكان فيه لسوء الأدب، ثم أن مولد العذراء لا يجب أن تكون فيه راقصات من الأساس.
وهنا تأتى النقطة الفارقة، فالموالد التى يقيمها المصريون سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، ويضعون على كل مولد اسم ولى أو قديس، لا يقيمونها أبدا من أجل الأولياء أو القديسيين، إنهم يفعلون ذلك من أجل أنفسهم، فالمولد فى النهاية نوع من النشاط الاقتصادى، الكل يدخله كى يحقق فائدة ما، مادية أو معنوية لا فرق، المهم أن الجميع يخرج راضيا، وأعتقد أن آخر ما يفكر فيه من يقومون على أمر الموالد هو اسم الولى أو القديس.
لن أبالغ وأقول أننا حولنا الأولياء والقديسيين مثل أشياء كثيرة فى حياتنا إلى أداة للكسب، بصرف النظر عن حجم هذا الكسب أو قيمته، كل ما يهمنا هو أن نعرف كيف نتكسب منها.
فما أقوله هنا حقيقى جدًّا للدرجة التى يمكن أن تكون فيها مفزعة للبعض.
ليس من حقى بالطبع أن أتحدث عن نوايا الناس، فلا أمتلك القدرة على شق صدورهم لأعرف ما تخفيه قلوبهم، ولكننى أتحدث عما يبدو على السطح، وهو كثير وكافٍ ودال وكاشف عما يحدث على الأرض.

 

لقد أدركت راقصة مولد مسطرد أن السيدة العذراء بمولدها سبب فى خير كثير يعود عليها وعلى فرقتها، ولأنها بنت بلد وجدعة، فقد أرادت أن ترد بعضًا من الجميل، وهو ما نفعله مع أوليائنا وقديسينا، نعرف أو على الأقل نوهم أنفسنا بأنهم سبب خير يعود علينا فنشكرهم بطريقتنا.

 

بعيدًا عن راقصة مولد مسطرد وما فعلته، وبصرف النظر فى النهاية عما إذا كان صوابًا أو خطأ، فإن الغناء للعذراء مساحة ملهمة جدًّا، تعبير عن محبة خالصة ممن يترنمون فى حبها، وهم كثيرون، صحيح أنهم يعتبرون ترانيمهم جزءًا من الصلاة، لكننا نخرجها من إطار الصلاة ونتعامل معها كأغانى.