رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مريم المصرية.. رؤية أخرى للسيدة العذراء» «9»

محمد الباز يكتب: ألم المصلوب... وأحزان المقهورة

محمد الباز
محمد الباز


لم يشغلنى بريق سورة آل عمران عن بريق سورة مريم، لكننى لا أستطيع إخفاء انحيازى.
سورة "مريم" هى الأكثر تفضيلًا لدى المسلمين من بين سور القرآن الكريم، ربما تنافسها سورة "يوسف" بعض الشيء. 
لكننى أعتقد أن درامية قصة السيدة العذراء وتشابكها أكثر ثراء من قصة النبى الذى تحالف عليه إخوته فحاولوا قتله، لكن الأقدار أبت عليهم ذلك.
قصة يوسف تصيغها المغامرات... أما قصة مريم فتنسجها المعجزات.
قصة يوسف تتسرب منها رائحة ملامح الحسد والغيرة والطمع والرغبة... وقصة مريم تتسرب منها علامات العجز والحيرة والقهر والدموع. 
فى سطور مريم يختلط الفرح بالحزن، ولأننا نملك أكبر ميراث من الأسى فإننا نتماهى مع القصة الأكثر درامية ليس فى القرآن فقط، ولكن فى الحياة جميعًا.
طبقًا للرواية القرآنية، تتوالى المواقف المدهشة، والمزلزلة فى آن واحد.
"واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا، فاتخذت من دونهم حجابًا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًا، قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيًا".
هل يمكنك أن ترفع عينيك عن قراءة هذه السطور، ولتأت معى إلى حيث تقف السيدة العذراء تتلقى هذا الأمر الجلل، تعالى أنا وأنت نتخيل ما جرى، نبحث فى ملامحها عما أحست به.
ما الذى شعرت به السيدة العذراء فى هذه اللحظة؟
هل فرحت بما سمعته؟
هل غضبت منه؟
هل تملكتها الحيرة فالتزمت الصمت ولم تخرج منها الكلمات القليلة التى قالتها إلا بصعوبة؟
هل فكرت فيما يحدث لها، وهل هو خيال أم حقيقة؟
أم استسلمت لما يراد بها ومنها؟
فهى لن تمنع شيئًا خطته الأقدار فى كتابها، وعليه فلا داعى لأن تقاوم.
شيء من هذا لم يحدثنا أحد عنه، ولم تحدثنا هى أيضًا، فقد كان لديها ما هو أهم وأبقى ومؤكد أنه شغلها عن العالم كله.
"فحملته فانتبذت به مكانًا قصيًا، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، فناداها من تحتها ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريًا".
هل يمكن أن نتصور قوة الجهاز العصبى لهذه السيدة؟
إنها تتعرض لما هو أكثر من الهول، ثم تجد من تلده يحدثها، ويبشرها بأن الله سيكون معها.
معجزتان تتعانقان فى لحظة واحدة على الأرض التى كانت قد هجرتها المعجزات.
سيكون طبيعيًا أن تقطع علىّ الطريق، وتقول لى: وما الذى يمكن أن يدهش السيدة التى ولدت دون اقتراب رجل منها، أن يحدثها من تحتها من ولدته؟
وما الذى يمكن أن يدهشها فى حديثه إليها، وهو يؤكد عليها ألا تخاف أو تحزن لأن الله سيقف معها؟
يمكن للأسئلة أن تتوقف قليلًا.
فالموقف الذى جمع السيدة العذراء بطفلها الصغير، يمكن أن يقودنا معًا إلى قانون جديد من قوانين مريم القرآنية، وهو قانون أيضًا يمكن أن يحل مشاكل كثيرة فى حياتنا إذا أخذنا به.
بعد أن وضعت السيدة العذراء وليدها، ورغم أنها كانت فى قمة الضعف والجوع، وفى حاجة لمن يساعدها، إلا أنها وفى وضوح هزت بجذع النخلة التى ولدت أسفلها.
قال لها صغيرها ذلك بشكل واضح: "وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا".
الرسالة واضحة.
فحتى تأكل لا بد أن تبذل مجهودًا، لا بد أن تقوم بعمل حتى ولو صغيرًا.
هل جربت أن تهز نخلة من جذعها؟
فى الغالب لم تجرب ذلك، حاول أن تفعل ذلك، لن تكون هناك نتيجة مرضية أبدًا، لن تحصل على شيء، فحتى تحصل على خير النخل لا بد أن تصعد إلى قمته.
قد تكون السيدة العذراء فطنت إلى ذلك، فلو هزت بجذع النخلة فلن تهتز، ولن ينزل رطبها، لكنها فطنت أيضًا إلى رمزية تلقى الأمر وطاعته من ناحية، ثم وهذا هو الأهم رمزية أن يبذل الإنسان مجهودًا حتى يحصل على ما يريد.
ليس مهمًا أن يكون المجهود خارقًا، المهم أن يكون هناك مجهود من الأساس.
فإذا أردت أن تأكل فلا بد أن تبذل مجهودًا لتحصل على طعامك، لا أحد يمكنه أن يمنحك شيئًا مجانيًّا.
فعلتها السيدة مريم، هزت جذع النخلة وهو فعل غير مؤثر بالمرة، لكنها فى النهاية فعلت.
ولا أدرى لماذا لا يفعل ذلك الكثيرون.
فما أكثر من نقابل ممن يريدون أن يحصلوا على كل شيء، دون أن يفعلوا أى شيء.
ضعوا سيرة وتجربة العذراء أمامكم، وساعتها لن نكون فى حاجة إلى معجزة، لأن المعجزة حدثت بالفعل، لكننا نريد أن نراها بأعيينا، رغم أننا يمكن أن نصنعها بأيدينا. 
يجرنا القرآن إلى الحقيقة التى يريد أن يثبتها، فهو يعترف بكل ما ورد عن السيدة مريم.
حملت من غير رجل.
وضعت صغيرها الذى نطق فى مهده، ليكتب شهادة براءة لوالدته.
لكنه لا يعترف بألوهية المسيح، فبعد أن جمعته بأمه لحظة إنسانية نادرة جدًّا، وضع الدستور الذى يريد أن يعامله العالم من خلاله.
"قال إنى عبد الله آتنى الكتاب وجعلنى نبيًّا، وجعلنى مباركًا أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيًّا، وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارًا شقيًّا، وسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا".
هنا يتوقف عيسى عليه السلام عن الكلام، لتبدأ الرؤية القرآنية فى تثبيت أقدامه "ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون".
انحاز القرآن بشكل كامل لرواية الإنجيل عن مريم عليها السلام، فهى لن تضر العقيدة فى شيء، بل تأتى دليلًا على المعجزات التى قدمتها السماء للأرض حتى تعترف بطلاقة قدرة الإله، لكنه الانحياز الذى جاء على حقيقة المسيح، فالقرآن لا يقر له بألوهية، ولا ببنوة لله، ولكنه عبدالله ورسوله.
وهنا يظهر لنا الفارق النفسى الرهيب بين مريم القرآنية، ومريم التى تناولتها الكتب الأخرى.
مريم القرآنية توقفت آلامها بعد أن ولدت ابنها دون أب متحملة ما قاله المجتمع عنها. 
سارت معه فى رحلته التى ظللتها السماء، عانت معه وهو يتجاوز المصاعب، لكنها وطبقًا لرواية القرآن لم تتعذب بصلبه، بل رأته وهو يصعد إلى السماء بعد أن رفعه الله إليه.
لكن مريم التى صلب ولدها أمامها– طبقًا لرواية الإنجيل- وهى عاجزة وقليلة الحيلة، امتدت آلامها إلى اللحظة التى اخترقت فيها المسامير يدى ابنها وقدميه.
لن أحدثكم هنا عن مريم كما تروى سيرتها الكتب، بل بما شعرت أنا به.
عندما عرض فيلم "آلام المسيح" فى دور العرض المصرية فى العام 2004، لم ألتفت كثيرًا للممثل الذى قام بدور المسيح "جيم كافيزل"، ولكنى توقفت كثيرًا عند الممثلة التى أدت دور السيدة العذراء "إيميليا مايا مورجنستيرن".
ظل السؤال معى.
بالله عليكم أيهما أكثر مرورًا بتجربة الألم؟
المسيح الذى صلب؟
أم الأم التى ترى ابنها يتمزق أمامها وهى عاجزة دون أن تنطق أو تعترض أو تصرخ؟
لقد عانى المسيح ألمًا ماديًّا انتهى بصلبه، لكن مريم المقدسة تحملت ألمًا معنويًّا هائلًا لا يقدر عليه أحد.
عاشت سنواتها إلى جوار ابنها يأكل الخوف عليه قلبها، ولما صلب سكنتها الأحزان التى لم تغادرها حتى اللحظة التى ماتت فيها.
ترى ما الذى قاله لها وهو على صليبه؟
هل حاول تخفيف الألم عنها؟ أم أن آلامه شغلته؟
هل قرأ الشفقة فى عينيها؟ أم أنها حاولت أن تظهر قوية حتى لا تزيد آلامه؟
كل الأسئلة فى هذه اللحظة لا قيمة لها، فالمسيح تعذب مرة، أما السيدة العذراء فتعذبت ألف مرة.
من أجل هذا تحولت مريم إلى ملجأ إلى كل المعذبين فى الأرض.
خرجت من هذه اللحظة لتصبح ملاذًا لكل الحزانى والمكسورين.
أصبحت قبلة لكل الذين يعرفون أن خلاصهم معقود بيد الله.
لقد دخلت السيدة العذراء عند المصريين إلى مساحة الأولياء والقديسين الذين يولون وجوهم شطر أضرحتهم، معتصمين بما يعرفونه من سيرة حياتهم، يستلهمون المعانى، ويقفون على عتبة الله ليحصلوا على العون الذى لا ينقطع والمدد الذى لا ينتهى.
إنهم ينادون السيد البدوى... والقنائى... والشاذلى... وفى لحظة يأس كبرى... ينادونها: يا عدرا.
يتشفع المسلمون عند ربهم بمن ظلمت وماتت مقهورة، عله ينصرهم كرامة لها.
ولذلك ستظل مريم العذراء حائطًا يستند عليه الجميع، على أمل أن يحل نورها وتتجلى معجزاتها.
انتظارها يطول، لكنه على أى حال يظل سلوى للمتعبين وشفاء للمرهقين ودواء للمجروحين.
فأن تنتظر ما لا يجيء وأنت تحلم بمجيئه، خير من أن تفقد الأمل فى كل شيء.