رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ناصر الدين النشاشيبى يكتب: تجارب الأبطال

ناصر الدين النشاشيبى
ناصر الدين النشاشيبى

فى بيت جمال عبدالناصر، وعلى المقاعد القليلة التى صادقت رجال الثورة فسمعت أحاديثهم وحبست أسرارهم ورأت فى اليوم الموعود فجر ثورتهم... فى ذلك البيت الفقير بكل ما فيه، الغنى بكل من فيه، جلست إلى رئيس وزراء مصر أستمع إليه وهو يروى على مسمعى قصة اليوم:
يوم المنشية.. وثمانى رصاصات.. وربع مليون إنسان!
وقلت لجمال عبدالناصر:
- هل هى التجربة الأولى؟
وضحك الثائر الأول وقال:
- لعلها العاشرة.. بل المائة بل الألف، فقد واجهت رصاص إسرائيل شهورًا طويلة وأنا أنتقل بين الفالوجة و«عراق المنشية»، كان طريقى فى تلك الأيام هدفًا دائمًا لرصاصهم وقنابلهم، كنت أقطع أميالًا طويلة وأنا أرافق الانفجارات وأدارى الألغام، كان الموت سميرى وملازمى وصديق أيامى وقد عرفته ورأيته وعشت معه والذى يواجه الموت من أجل فلسطين.. لا يهرب منه من أجل مصر!
قلت: وهذه التجربة الأخيرة..
تجربة المنشية والرصاصات الغادرة الثمانى؟
وبنفس الأعصاب الهادئة الصخرية، الأعصاب التى هيأت للثورة أسبابها يوم طردت فاروق وألغت الملكية واقتحمت الصعاب وحققت الجلاء.. بهذه الأعصاب الصلبة التى لا تظلم ولا تستبد بدأ جمال عبدالناصر يقول لى:
- لم تصدق عيناى ما سمعته أذناى، لم أصدق أن هذا الوهج الذى يلهب بصرى هو النار التى تحمل معها رصاصات الغدر إلى صدرى، لم أصدق أن بين هذه الآلاف التى احتشدت أمامى تهتف بحياة مصر إنسانًا واحدًا، يهتف بحياة الموت لجمال عبدالناصر، كان صوت الرصاص يقرع سمعى وأنا أسائل نفسى فى أسى وذهول أنا..؟ أنا المقصود؟!
ومضى جمال يقول:
وسمعت الرصاصة الأولى فالثانية فالثالثة فالرابعة، وحاولت أن أتقى باقى الرصاصات فأحنيت رأسى قليلًا ثم عدت لأواجه بقية الغدر والجبن والخيانة، ولم أعد أرى شيئًا أو أحس بشىء... لقد رأيت أمامى جموع الناس تتدافع فى ذعر وهلع وسمعت فى أعماق نفسى صوتًا يهتف بى لمناداتها فأدعوها للبقاء، لقد صرخت بدمى وأعصابى أيها الرجال فليبق كل فى مكانه، ورحت أكرر هذا النداء فى عبارات سريعة متتالية، لقد شعرت بواجبى فى أن أعيد إلى ذلك الجو هدوءه واستقراره، وكان يهمنى ألا يعكر أمن ذلك البلد الحبيب أى حادث ولو كان حادث اعتداء على حياتى، وفرحت وأنا أرى الجموع المحتشدة تعود إلى أماكنها.. لحظات خاطفة وتمنيت لو كان هناك مصور صحفى ليسجل اللحظات العصيبة.