رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في ذكرى مولد الشيخ محمد رفعت.. أعظم «صوت صدح بالقرآن»

الشيخ محمد رفعت
الشيخ محمد رفعت

أجيال عديدة ارتبط في ذهنهم شهر رمضان بصوت الشيخ محمد رفعت٬ ومما لا يختلف عليه اثنان أن مغرب رمضان له مذاق خاص بصوته في رفع الآذان٬ هي صورة ذهنية أو ارتباط شرطي، آذان مغرب الأيام الرمضانية تعني صوت الشيخ محمد رفعت والذي تحل اليوم الذكرى الــ 138 لمولده.

وصفه الكاتب الساخر محمود السعدني في كتابه "ألحان السماء" بأنه مثل أبي ذر الغفاري٬ يمشي وحده ويموت وحده٬ ويبعث وحده يوم القيامة٬ وصوت الشيخ بدّار كالذهب المصهور، صوته٬ هو صوت الشعب، من بين الأصوات التي سمعناها وما أكثرها صوت يقف فريدًا غريبًا باهرًا٬ وسر غرابته أنه استمد طبيعته من جذور الأرض٬ إنه صوت المرحوم الشيخ محمد رفعت صوت الشعب٬ فمن أصوات الشحاذين والمداحين والندابين والباعة الجائلين٬ استمد المرحوم الشيخ محمد رفعت صوته٬ فخرج مشحونًا بالأمل والألم٬ مرتعشًا بالخوف والقلق عنيفا، عنف المعارك التي خاضها الشعب٬ عريضًا عرض الحياة التي يتمناها ولذلك كتب لهذا الصوت البقاء٬ وسيظل إحدى علامات الطريق في تاريخنا الفني الطويل.

عندما بدأ البث الإذاعي في مصر في عشرينيات القرن العشرين وكانت عبارة عن إذاعات أهلية،31 مايو 1934 بالإتفاق مع شركة ماركوني، قوبل هذا الاختراع بالرفض والاستنكار بل وقد حرمه رجال الدين٬ ولم يتحول هذا الموقف إلى النقيض إلا مع صوت الشيخ محمد رفعت عندما صدح صوته بآيات الذكر الحكيم، بل ومما يحكى عن مواقف في حياة الضاحك الباكي "نجيب الريحاني" أن المرات القليلة التي كان يتأخر فيها عن رفع ستار مسرحه٬ تلك التي كان يجلس فيها متصوفا يستمع بقلب خاشع لصوت الشيخ رفعت، والذي عرف عنه حبه للموسيقي وشغفه بسيمفونيات بيتهوفن.

يصفه "كمال النجمي" أشهر ناقد فني أواسط القرن المنصرم بــ"أعظم صوت تغنى بالقرآن" ويحكي في كتابه "الغناء المصري" عن مواقف جمعته بالشيخ محمد رفعت فيقول: "جلست على مقربة من الشيخ رفعت ألتمس عنده زادا للوجدان٬ فانسابت النبرات الموسيقية الدافئة٬ تمتد من حنجرته الوهاجة إلي الجالسين حوله٬ امتداد أشعة الشمس إليهم في رحاب المسجد٬ ولعلي فوجئت في اللحظات الأولى بأن صوت الشيخ رفعت بدون الميكرفون لا يجلجل فيملأ الجو كما عهدناه ونحن نسمعه سنوات طوال من خلال الراديو في قريتنا بالصعيد."

تابع: "كنا في قريتنا نسمعه في الراديو مرتفعا مدويا٬ تسمعه معنا القرى المجاورة ولكنه في المسجد أشبه بالكمان الخافت ينصت السامعون إليه بانضباط شديد٬ حتى لا تفوتهم منه همسة٬ فإن همسة من ذلك الكمان الخافت العبقري تساوي أضعاف وزنها طربا أو وجدا أو نورا تستضيئ به الروح".

يستطرد: "لكن خفوت صوته لم يكن يحجب عن السماع اتساع مساحته٬ وكثرة درجاته الموسيقية أو مقاماته٬ فإن صوت الشيخ رفعت من الأصوات النادرة التي يضيق حجمها وتتسع درجاتها الموسيقية حتى تتفوق باتساعها على أكبر الأصوات حجما، ولهذا لم يكن الميكرفون يزيف صوت الشيخ رفعت، كان يوضح حجمه فقط٬ أما درجاته الموسيقية المتعددة٬ فهي لا تتغير بالميكرفون وبدونه٬ فلم يكن بين صوته الطبيعي٬ وصوته الميكرفوني إلا فارق الوضوح في الأسماع حين تصغي إليه من بعيد، كان صوتا فذا مكتمل الروعة٬ تنطلق من حجمه الضيق درجاته الموسيقية المتعددة فتبلغ سماء الفن٬ كما ينطلق الصاروخ من قاعدته فيبلغ الفضاء الأعلى".

يتابع "النجمي" تشريحه الموسيقي لصوت الشيخ رفعت: "والحق أنني لم أسمع طوال حياتي صوتا ضيق الحجم خافتا كصوت الشيخ رفعت٬ يحتوي برغم ضيق حجمه وخفوته٬ على ثماني عشرة درجة موسيقية٬ أو ثمانية عشر مقاما موسيقيا سليما، ويمتد بكل انسجام واقتدار على أقسام الأصوات الرجالية الثلاثة المعروفة عند الموسيقيين، وله فوق هذا كله٬ استعارة صوتية عجيبة تتألف من ثلاث درجات موسيقية ساحرة٬ ما سمعنا مثلها حتى يومنا هذا، فاجتمعت بذلك لصوته العبقري مساحة موسيقية هادئة تضم واحدا وعشرين مقاما تقريبا٬ كما تنطوي الطاقات الهائلة في الذرة الصغيرة".

بهذه المواهب الصوتية السماوية٬ بهر الشيخ رفعت معاصريه وملأ الدنيا وشغل سامعيه٬ ولكنه كقارئ للقرآن لم يكن موهبة صوتية باهرة فحسب٬ بل كان في الحقيقة أنسانا مخصوصا بقراءة القرآن إن صح هذا التعبير٬ كأنما وجد في الدنيا ليتلو القرآن ويرتله علي الناس ترتيلا٬ عارضا عليهم معانيه وألفاظه من جديد.

وكان حين التلاوة يضع قلبه في معاني آياته٬ وروحه في حروف كلماته٬ متدبرا ما يتلو تدبر المؤمن الورع٬ كأنه يرفع أمام بصيرته في كل وقت هذا السؤال القرآني: أفلا يتدبرون القرآن؟، إذا تلا آية من آيات الثواب والرحمة٬ رفع صوته عندها فرحانا مستبشرا كأنه يستقبل رائحة الجنة٬ وإذا مر بآية من آيات العذاب والنقمة٬ سرت في صوته الرعدة والرجفة والخشية كأنه يخشى أن يختل توازنه فوق الصراط، كانت دموع قلبه تجري في نبرات صوته٬ فتلاوته حزينة باكية٬ ووجدانه ممتلئ بهذه الآية: "إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا"، وباله مشغول في كل لحظة بقول النبي: "إن هذا القرآن نزل بحزن٬ فاقرأوه بحزن"، وقوله "إن أحسن الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به".