رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سرى للغاية (8).. الموساد خلف المشهد.. تفجير المفاعل النووى العراقى 1981

تفجير المفاعل النووي
تفجير المفاعل النووي العراقي


"عملية أوبرا" التي استهدفت المفاعل النووي العراقي، رغم أنها تبدو عملية عسكرية، إلا أن الموساد لعب دورًا رئيسيًا فيها خلف الكواليس، على مدى خمس سنوات، انخرطت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في جهود مكثفة أدت إلى القضاء على المفاعل النووي العراقي في عملية سببت ضجة كبيرة في المجتمع الدولي.

صفقة صدام حسين مع الفرنسيين لإنشاء المفاعل

بداية القصة تعود إلى عام 1974، عندما خطط العراق لشراء مفاعل نووي لتوليد الطاقة من غاز الجرافيت عن طريق مفاعل يعمل باليورانيوم الطبيعي، رفضت فرنسا تزويد العراق بمفاعل كهذا، لأنه من الممكن استخدامه لإنتاج البلوتونيوم لبرنامج الأسلحة النووية، وعرضت على العراقيين، مفاعل من نوع أوزوريس- مفاعل أبحاث كبير نسبياً تم تشغيله عام 1964 في المركز النووي الفرنسي في ساكلاي- ويحتوي المبنى الذي يحتوي على مفاعل أوزوريس على مفاعل آخر أصغر منه اسمه إيزيس، على الرغم من أن نواة مفاعل إيزيس تشبه تلك الموجودة في نموذج أوزوريس، إلا أن ناتجه منخفض جدًا ويستخدم بشكل أساسي لتدريب الأفراد على تشغيل مفاعل أوزوريس.
الناتج الفعلي لمفاعل أوزوريس (40 ميجاوات، وقابل للزيادة إلى 70 ميجاوات)، يُستخدم هذا المفاعل في فرنسا لاختبار مقاومة المواد النووية والوقود المعد للاستخدام في مفاعلات توليد الطاقة، وفي الوقت نفسه، تسمح له إمكانياته في إشعاع كميات كبيرة من اليورانيوم الطبيعي لغرض إنتاج البلوتونيوم العسكري ، وإن كان على نطاق أصغر من مفاعل غاز الجرافيت.
وافق العراقيون، ونوقشت الصفقة خلال زيارة صدام حسين إلى فرنسا في أوائل سبتمبر 1979، وبعد ذلك بشهرين، وخلال زيارة قام بها وزير الصناعة الفرنسي ميشيل دورنانو إلى بغداد، تم التوقيع على اتفاقية إطارية للتعاون النووي "للأغراض السلمية"، باسم مشروع أوزيراك "كلمة تجمع بين كلمتي أوزوريس والعراق" على المفاعل، وأهم بنودها إنشاء مفاعل نووي في العراق مطابق لمفاعل أوزوريس الفرنسي، تم تسمية مفاعلي أوزوريس وإيزيس العراقيين "تموز 1" و "تموز 2".


وحدة "العصر الجديد" الاستخباراتية تتولى العملية

بعد أن أصبح الاتفاق بين فرنسا والعراق قائما، بدأ الموساد يتدخل، فكانت مهمته مراقبة جميع التطورات المتعلقة بالمحطة النووية، وتمت مشاركة المعلومات مع أمريكا وعدد من الدول الأخرى بغرض تكوين جبهة دبلوماسية ضد المشروع، لكنهم لم يتلقوا أي ردود.

استمر الموساد في جمع المعلومات، حتى حصل على معلومة تفيد بأن العراق كان قريبًا جدًا من إنشاء ترسانة نووية، وبعد بضعة أيام، وردت معلومات حاسمة أخرى مفادها أنه سيتم استلام شحنة كبيرة من اليورانيوم المخصب لهذه المحطة النووية من فرنسا بحلول نهاية يوليو 1981، وأبدت إسرائيل مخاوف من الشحنة، لكن فرنسا أكدت أن الشحنة لتشغيل المحطة النووية للأغراض السلمية فقط، كما حصلت المخابرات الإسرائيلية على أدلة إضافية عن الجوانب العسكرية للبرنامج.
"ناحوم أدموني"، الذي شغل منصب نائب رئيس الموساد خلال تلك الفترة كشف في حواره مع موقع واللا عن بعض التفاصيل حول استعدادات الهجوم على أوزيراك مشيراً إلى أنه ترأس وحدة تسمى "العصر الجديد"، تم تكليفها بمهمة جمع وتقييم المعلومات المتعلقة بالمنشأة النووية العراقية، وتألفت المجموعة من عناصر الموساد وضباط المخابرات العسكرية وعلماء من هيئة الطاقة الذرية الإسرائيلية.

اعتراض البرقيات والمراسلات والمكالمات بين باريس وبغداد

كان ضمن مهام الوحدة اعتراض كل البرقيات ذات الصلة بمشروع العراق، واستخلاصها من الكم الهائل من حركة التلغراف الدولية اليومية، وكان يتم تنقيح البرقيات بالبحث عن كلمات "نووي وذري"، ولكن فيما بعد عندما ثبت أن المراسلات تتم بالتلكس مستخدمة أرقاما، تم تطوير أجهزة المراقبة لرصد الرسائل المشفرة.
ثم تم تطوير أنظمة لاعتراض المكالمات الهاتفية، مع التركيز على المكالمات بين بغداد وباريس، ومن أجل ذلك تم جمع الأفراد الناطقين بالفرنسية في الاستخبارات، وتكليفهم بمهمة نسخ وتفسير المكالمات الهاتفية التي تم اعتراضها. 
كما قام الموساد بتحليل أوقات المكالمات الهاتفية التي أجريت، من حيث يوم الأسبوع والوقت من اليوم، توصل إلى استنتاج مفاده أنه في أيام الجمعة والسبت لم يتم إجراء أي نشاط تقريبًا في موقع أوزيراك، وتم تقديم هذه النتائج إلى قسم التحليل في الجيش الإسرائيلي، لكنه لم يكتشف أبدًا ما إذا كانت هذه المعلومات مفيدة بأي شكل من الأشكال، حيث تم تنظيم العملية يوم الأحد، وهو ما أسفر عن قتل أحد المهندسين الفرنسيين العاملين في الموقع، رغم أنه كان بالإمكان تفادي ذلك بالقيام بالعملية يوم الجمعة أو السبت.

كما تم جمع معلومات عن البنية الداخلية للمفاعل ورصد التطور في إنشائه، وأشارت المعلومات الأكثر أهمية إلى أنه من المتوقع أن يصبح مفاعل تموز 1 ساخناً في يوليو 1981، (وهو الوقت الذي يبدأ فيه الاحتراق النووي للوقود في المفاعل)، وهو ما يعني أنه ستكون هناك انبعاثات مشعة من المفاعل إذا تم قصفه بعد أن أصبح ساخناً، مما قد يضر بالسكان المحليين. 

خطة الهجوم .. طيران منخفض وتعطيل الرادارات 

تم وضع خطة الهجوم على المحطة النووية الواقعة على بعد 17 كيلومترًا جنوب شرق بغداد في العراق. وهو ما يعني أنه يجب أن تمر الطائرات الإسرائيلية عبر المجال الجوي للأردن والمملكة العربية السعودية، وهم لن يسمحوا أبدًا باستخدام المجال الجوي من قبل الطائرات الإسرائيلية بل قد يعترضونها.

في ذلك العام تلقت إسرائيل طائرات F-16 من أمريكا، فيجب حساب وزن القنابل وكمية الوقود المطلوب بدقة ؛ وإلا لن تتمكن الطائرة المقاتلة من العودة، بالإضافة إلى أنه في حالة حدوث أي طوارئ، إذا احتاج المقاتلون الذهاب إلى أي منعطف، فيجب حساب كمية الوقود الإضافية المطلوبة بدقة، بيد أنه لن يكون هناك خيار لإعادة تزويد الطائرات بالوقود في بلد معاد. 

في 7 يونيو عام 1981 في الساعة 5:31 مساء، أقلعت ثمانية قاذفات مقاتلة من طراز F-16A Fighting Falcon ، ترافقها ستة نسور من طراز F-15A، من قاعدة جوية في جنوب إسرائيل، حلقت الطائرات على ارتفاع منخفض لتجنب الكشف عن طريق الرادارات ، على الرغم من أن معظم الرادارات ونظام الاتصالات قد تعطلت من قبل إسرائيل، ولكن تم رصد الطائرات الإسرائيلية، عندما داخل الأجواء الأردنية، واتصل بهم مركز المراقبة الجوي الاردني، رد الطيارون بالعربية زاعمين أنهم ينتمون إلى المملكة العربية السعودية، وهم في طلعة جوية روتينية ودخلوا بطريق الخطأ إلى المجال الجوي الأردني. وسوف يعودون إلى السعودية ويعتذرون عن انتهاك الأجواء الأردنية.
وعندما وصلوا داخل الأجواء السعودية، تم رصدهم من قبل الرادار السعودي، واتصل بهم مركز المراقبة السعودي، وأجابوا بالعربية أنهم طائرات مقاتلة من الأردن، وهم في طلعة طيران روتينية ودخلوا عن طريق الخطأ المجال الجوي السعودي. سيعودون إلى الأردن ويعتذرون عن انتهاك الأجواء السعودية.

الملك حسين ملك الأردن، الذي كان صديقاً لصدام حسين، كان في إجازة في خليج العقبة على يخته الخاص، ولاحظ أن هناك مقاتلات إسرائيلية تحلق فوق اليخت على ارتفاع منخفض وتتجه نحو العراق، وفهم وجهتهم نحو المحطة النووية في العراق، وأمر السلطات الأردنية بتنبيه سلاح الجو العراقى، ولأنه تم تشويش جميع خطوط الاتصال، لم تتلق السلطات العراقية أي معلومات، لم يكن الموساد يعرف شيئاً عن هذه العطلة، وإلا لكانوا قد وضعوا مسارًا مختلفًا للطائرات.

تم إسقاط 16 قنبلة حديد MK-84. على المحطة النووية وخلال دقيقة واحدة و20 ثانية، تم الانتهاء من العملية بأكملها. تحركت القوات الجوية العراقية إلى العمل، ولكن جميع الطائرات الإسرائيلية كانت قد غادرت بالفعل المجال الجوي العراقي، وعادت إلى قاعدة عتصيون الجوية بالقرب من إيلات، وانتهت عملية "أوبرا"، وهي أول عملية إسرائيلية ضد مفاعل نووي.

كان يقود أحد الطائرات طيار شاب يدعى إيلان رامون، تم تكليفه بوضع خطة الملاحة وكان آخر طيار يسقط القنابل على قبة المفاعل، وأصبح رامون فيما بعد أول رائد فضاء إسرائيلي، وتوفي خلال حادث مكوك الفضاء كولومبيا عام 2003.

بقرار شخصي من بيجن: إسرائيل تتبنى العملية 

وفي اليوم التالي للعملية، أعلنت إسرائيل أن مقاتلي القوات الجوية الإسرائيلية دمروا المنشأة النووية العراقية، جاء هذا الإعلان نتيجة لقرار شخصي اتخذه رئيس الوزراء مناحيم بيجن، خلافاً لتوصية مديرية المخابرات في الجيش الإسرائيلي بالإدعاء بأن المهاجمين كانوا يقودون طائرات إيرانية من أجل منع تورط إسرائيل في أزمة دبلوماسية، وشرح بيجن في وقت لاحق قراره بقوله: "هل كان علينا أن نسمح للعراق بإطلاق الإعلان- وهو ما كانوا سيفعلونه في نهاية المطاف- حتى يتم إلقاء اللوم على إسرائيل ولكن مع أقل قدر من الشجاعة؟ ما نحن، لصوص في الليل؟" 

انتقادات واسعة للعملية.. وتوتر مع فرنسا 

كانت "عملية أوبرا" وضعت أسسا في العقيدة الإسرائيلية، وهى القضاء على أي تهديد نووي، لوجود إسرائيل، كما كانت للعملية آثار استراتيجية دولية، ففي البداية أثار الهجوم في إسرائيل جدلاً داخلياً، حيث رأى حزب العمل اليسار أنه ليست هناك حاجة في هذه المرحلة المبكرة للقيام به، بينما رأى اليمين بقيادة حزب الليكود أن العملية كانت ضرورية، وساهمت العملية بشكل كبير في فوز مناحم بيجن في انتخابات الكنيست بعد ثلاثة أسابيع.
تم انتقاد الهجوم على نطاق واسع، وردت إسرائيل بأن أفعالها بغرض الدفاع عن النفس، وبالتالي مبررة بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وتم رفض فكرة "الدفاع عن النفس الوقائي"، كانت فرنسا غاضبة لمقتل مواطن فرنسي نتيجة للهجوم ، فيما ظلت العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا وإسرائيل متوترة لفترة. 
أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 487، الذي دعا إسرائيل إلى "وضع منشآتها النووية تحت ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، وذكر أن العراق "يحق له الحصول على تعويض مناسب عن الدمار الذي لحق به"، لم تمتثل إسرائيل لهذه الطلبات، كما أيدت الولايات المتحدة القرار الذي يدين العمل الإسرائيلي.
بعد عقد من الزمن، تغيرت وجهة الموقف الأمريكي، واعترف عدد من المسئولين الأمريكيين الذين عارضوا سابقًا الضربة الجوية مؤكدين أن العملية أبطلت فرصه أن يصبح العراق دولة نووية، ثم اتبعت الولايات المتحدة سياسة الإسرائيليين بشن ضربات وقائية ضد أهداف مثل تدميرعام 1998 لمنشأة أسلحة كيميائية مشتبه بها في السودان.