رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيزيت سالم تكتب: عبادة التذوق لحارس العين الذي رائحته حبهان

زيزيت سالم
زيزيت سالم

- عن رواية "كحل وحبهان" للروائي عمر طاهر.

في سرد بديع يحكي لنا عمر طاهر عن "سيسكو" وشغفه الواضح لحضور حفل محمد منير الذي سيقام لأول مرة في نادي المدينة بعد خمسة أيام، وقرار والده بالسماح له بحضور الحفل من عدمه يرتبط بموافقته على سلوكه خلال هذه الفترة.

يتناوب الكاتب السرد بحرفية عالية بين فتريتين زمنيتين متباعدتين، ما بين سن الرابعة عشر والتاسع والعشرين من عمر بطل الرواية، فيحكي لنا عن اليوم الأول وهو في الرابعة عشر من عمره، يقابلها سرد مستقبلي بعد تخرجه وزواجه على مدى خمسة أيام، وما بين المراهقة والشباب والنضوج يطوف بنا الكاتب في رحلة روحية يربط فيها بين رائحة الخير والطعام وبين مفردات الحياة كما العاشق عندما يتحدث عن معشوقته.

يحدثنا عمر طاهر عن رائحة الأشخاص وارتباطها برائحة الطعام ص66، فرائحة عبد الناصر هي خليط من رائحة كولونيا 555 والسجائر، رائحة عبد الحليم هي تلك الرائحة العشبية التي تنطلق عقب قص الحشائش، أم كلثوم ورائحتها القريبة من رائحة الخبز البلدي.

ثم يستدرجنا بخفة إلى المتعة ص 61 التي تفوتنا عندما نأكل بسرعة فتفوتنا متع كثيرة كمتعة النظر إلى الطعام والاستمتاع بألوانه، متعة الشم الذي يشبه الأخبار الحلوة، متعة المضغ والقدرة على الاستطعام فالتذوق عبادة، متعة البلع كهدية الى معدتك التي تحبها

وعندما يكلمنا عمر طاهر عن المشاوي ص 43 يداعب أحاسيسنا عندما يصفها أنها كرصانة قصائد أم كلثوم التي تطل عليك بعد منتصف الليل في ليلة شتوية، ويمكن للواحد بعدها أن يغفر كل شي.

وكما يعلمنا الكاتب كيفية استعادة حاسة الشم بعد نزلة البرد باستنشاق رائحة البن فتستعيد حاسة الشم بعدها مهارتها، يخبرنا أيضا أن القهوة مزاج الأشخاص الذين يحفظون للكوكب توازنه، ثم يأخذنا الى تعريف العيش والملح ص 63 للتعبير عن الإخلاص، العيش بلونه الأسمر وبياض الملح، لونان يلخصان تجربة الحياة، يوم غامق ويوم فاتح، يوم حلو ويوم مر، فالعيش والملح البطولة فيه للوفاء والتسامح.

وفي مقارنة بديعة يعقد عمر طاهر مقارنة جذابة بين ما يقوله العلم وما يقوله القلب عن الرائحة ص120، فعن رائحة الكتب يقول العلم أنها خليط روائح مواد طيارة عالقة بالورق والحبر، أما القلب فيقول أنها روائح القراء امتزجت برائحة الخشب البندقي لمكتبة عتيقة، وعن رائحة النقود يقول العلم أنها خليط رائحة القطن والصبغات التي تنام فوق الورق ويقول القلب أنها رائحة روائح الأماكن التي تختبئ بها النقود طوال رحلتها، وعن والمرح فله رائحة الفلفل الأسود، والمفاجآت الطيبة لها رائحة المطر، والطمأنينة لها رائحة الثوم المجفف، أما الفانيليا فلها رائحة الحزن.

ثم يحلق بنا عمر طاهر في سماء معجزة التوابل ص131 التي تبهت قوة تأثيرها بالوقت، فلكل شخص توابله كما أن لكل شخص تقاليده، فالريحان عندما تنثره فوق ما تطهوه، يجعل الغائب يعود فهو عشب كريم بلا تحفظ، أما القرنفل فهو تابل الذين يمتلكون مهارة استطعام آلام الذكريات ومضغها على مهل حتى يتحول مرها الى حلاوة حريفة في منتصف الصدر، ثم تأتي القرفة التي هي تابل الطيبين القادرين على وضع أياديهم على ما يجعل الرضا أمرا مبهجا كرائحة العائلة.

وفي النهاية يذكرنا عمر طاهر ص167 أن السعادة تحتاج الى لصوص يسرقونها في جلسات الأصدقاء والأقارب واللمة أيا كان سببها، وضحكة مديحة كامل ص84 التي تتوسط نجوم والدته المفضلين وتقتطعها من المجلات وتثبتها بعجينة النشا على حائط المطبخ بطريقة تجعله جذابا ومثيرا للخيال، هذه السعادة التي نكتشفها أيضا في حلاوة طعام الأم الذي تأكله مختلطا بمشاعر يتم تخزينها في روحك مع تفاصييله الحلوة ولا شئ قادر على استعادتها سوى الطعم الأول فيتحول الى مفتاح للسعادة.

أما الحبهان بطل عنوان الرواية الذي ذكر اسمه بأكثر من موضع بالكتاب ص129، فله سحر وقور، جاد فيما يعبر عنه، رائحته له علاقة بأول الخلق، غموض التجربة الجذاب، وهو رائحة فقدان الاتجاه في ممرات خان الخليلي كما أن على العين حارس رائحته حبهان، ويختتم عمر طاهر روايته البديعة بفقرة أكثر إبداعا ص170 يقول فيها: "أجلس والى يميني جاذبية أبي وأمي ومدينة بعيدة تبدوا الآن قديمة ومعتقة وتأسر القلب كالحبهان، والى يساري جاذبية أبسط من القدرة على الوصف، مغوية بلا ضوضاء، كالكحل الذي يظلل نظرة صافية".