رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

موت وخراب ديار.. ماذا فعلت السيول بأهالي الزرايب؟ (صور)

أحدى سكان الزرايب
أحدى سكان الزرايب

كان اختفاء آخر ضوء للنهار هذه المرة ينذر بوقوع كارثةً ما، بعدما حدق الجميع في السماء، ولم يرووا سوى ضباب غيم على الأجواء.. تعالت في تلك الأثناء صرخات استغاثة من النساء والشيوخ والأطفال في مشهد مهيب، حينما ضريت السيول أرضهم، وأصبحوا حبيسة الجبال التي تحاوطهم من كل مكان.. هكذا كان الوضع في منطقة الزرايب بـ 15 مايو بعد موجة الطقس السيئ الذي شهدته مصر مؤخرًا.

زارت «الدستور» منطقة زرايب 15 مايو في حلوان، لرصد ما عاشه الأهالي في تلك الليالي المشئومة.


سيد: ارتطم أصغر أبنائي بحجر وتدهورت صحته
«بعد سنوات انتهيت من تجهيز ابنتي دنيا، وكنت على وشك تحديد موعد زفافها» كلمات بدأ بها «عم سيد» أربعيني، أحد أهالي منطقة الزرايب بـ 15 مايو، حديثه، موضحا أنه استطاع بالكاد استكمال كافة احتياجات ابنتته للزواج، ليأتي السيل وينهي على الجهاز وأحلام ابنته».

وأضاف «عم سيد»: «وقت حدوث السيل لم أفكر في أي شيئ سوى أبنائي الـ5، وعندما ضرب السيل المنطقة ورأىت العشش والبيوت تنهار، اصطحبت أبنائي ووضعتهم في بيت خرساني»، موضحًا أن ابنته دنيا (الكبيرة) ساعدته مع والدتها في نقل باقي الأبناء إلى أقرب بيت يمثل أمانًا لهم من السيل.

وتابع: «مع نقل أخر ابن لدي (يوسف) الذي وُلد بنزيف في المخ وممنوع من الحركة القوية أو الأنشطة التي تحتاج جهد عالي، وأنا أحمله مع أخوته لنقله فقدت توازني ولم أستطع أن أصمد أمام المياه ووقعت ومعي يوسف وارتطم بأحد الأسوار وراح في غيبوبه»، مستطردًا: «حاولت التقاطه بسرعة من المياه وساعدتني أمه في إفاقته، وبالفعل استفاق، لكن صحته الآن لم تعد كالسابق.. (الوقعة أثرت عليه وصحته دهورت تاني)».

أرزاق: أريد جثة زوجي للوداع الأخير
عشرات السيدات ينتظرن على إحدى أسوار العشش بلباس أسود، تعبيرًا عما حل بهن وأزواجهن، ومن بينهن سيدة تدعى «أرزاق» تحدثت بصوت خافت عن فقدان زوجها: «كنت شايفة جوزي وكان قدامي، قبل ما الدنيا تبقى ضلمة وغاب عن نظري».

وتضيف: «هو اطمئن علينا ونقلنا لمكان بعيد عن مجرى المياه، وذهب ليطمئن على بقية أسرتنا، ولم يعد مرة أخرى ولم نراه، لم أريده حيًا فقد احتسبته عند الله شهيدًا، ولكن أريد جسده الميت حتى أستطع دفنه وإكرامه، ألم يحق لي وداعه لأخر مرة؟».

إسلام: فقدت خالي وخايف على أسرتي من مصير مجهول
«منذ 10 سنوات بنينا حائط في اتجاه مجرى السيل حتى يمنع نزوله علينا»، كلمات بدأ بها الشاب العشريني إسلام حديثه، مضيفًا أن الجبل يحاوطهم من كل الاتجاهات، وأنهم يعيشون في بيوت بسيطة، بنوها بأيديهم وبمجهودهم الذاتي.

وتابع إسلام، أن الحائط الصد الذي بناه أعلى الجبل لم يفعل أي شيئ عند سقوط الأمطار وانهار أمام السيل، ولم يصمد طويلًا، مضيفا «بنيناه منذ 10 سنوات، وبسبب عوامل الزمن والتعرية لم يعد قويًا، وبمجرد تساقط الأمطار التي تحولت في دقائق لسيول عارمة، أخذت معها حائط الصد وبيوتنا، ولم يكتف السيل بهذا فقط بل أخذ أهلنا أيضًا».

وقال إسلام: «حاليًا احنا قاعدين في الشارع، ملناش مكان غير دا نروحه، وأشعر بالخوف والعجز أمام أسرتي وأخواتي البنات اللي بيناموا في الشارع، أنا مش خايف عليهم من الناس في المنطقة، لأننا هنا كلنا أهل وأخوات وبنساعد بعض ومنقبلش الأذى للتاني، ولكن خوفي عليهم من المصير المجهول الذي نواجهه الآن». 

وذكر إسلام أن أسرته مكونة من 5 أفراد ويعيشون في منزل صغير متواضع أسفل الجبل مباشرةً، لذلك عندما ضرب السيل الجبل ومنطقة الزرايب كانوا هم من أكثر الأهالي الذين تضرروا، وأصبح بيتهم مساويًا للأرض، وفقدوا كل شيئ، لافتا إلى أن خاله كان يسكن في المنزل المجاور لهم مع أسرته، وهم مفقودن حتى الآن.

وقال إسلام إن زوجة خاله المفقود في حالة لا يُرثى لها، وبين الحين والآخر تختفي من أمامهم ويجدوها في مجرى السيل، تبحث عن زوجها، وأن اللوادر تعمل ليلًا ونهارًا لإيجاد الجثث المفقودة، حيث تم العثور على عشرات الجثث ودفنها، لكن هناك آخرين مفقودين.



عماد: لا نطلب أشياء ترفيهية والخدمات الأساسية هي مطلبنا فقط
عماد عبد الصبور، أحد ضحايا منطقة الزرايب، يقول ليس الأموات هم المفقودين فقط، وإنما نحن أيضًا نواجه مصير مفقود وحياة مجهولة، فبعدما ضرب السيل أهلنا وخسرنا بيوتنا ورزقنا، نعيش الآن في الشارع، معلقًا: «آل بنا الحال إلى أننا ننام في الشارع، بيوتنا اتدمرت وبقت على الأرض، في كنيسة وجامع احنا قمنا ببنائهم بأيدينا، وبيت الله فقط هي من أنقذتنا، إذ هرع أهالي المنطقة كلهم إلى الكنيسة والمسجد وقت السيل».
وواصل «عبد الصبور» جميع أهالي المنطقة الآن يتخذون من بيوت الله مآوى لهم، وهناك مسيحيون في المسجد، ومسلمون في الكنيسة، «كبرنا وعيشنا على الأخوة والمحبة، والوقت دا كلنا بيجمعنا نفس المصير، ونتقاسم الحزن للتخفيف عن بعضنا، وليس أمامنا سوى الدعاء أن يرفع الله عنا هذا البلاء».

ويضيف «عبد الصبور» أن الحكومة تطلب من أهالي المنطقة أن يغادروها لمكان آخر أكثر أمانًا، معلقًا: «أنا رزقي مخترتوش وورثت الشغلانة دي عن أيويا وجدي وكبرت وعيشت على مصدر الرزق من الزبالة، ومعنديش مشكلة أخرج من المنطقة، بس الحكومة تضمنلي منزل وعمل أستطيع أن أصرف على أسرتي منه».

وأضاف أنه حال اختيار الحكومة أن تعيد بناء المنطقة من جديد، فهم في حاجة إلى الخدمات والمرافق الأساسية فقط، حتى أنهم لم يطلبوا أي أشياء ترفيهية لهم أو لأبناءهم، فقط يريدون مجرى للسيل حتى لا تتكر الكارثة مرة أخرى، ويريدون أيضًا مستشفى ومدرسة فقط لا غير.

نصرالله: السيل جرف أولادنا ومش لاقين جثة بنتنا الصغيرة
على بعد أمتار من منزل نصرالله كمال، أحد ضحايا عزبة الزرايب، فوجئ هو وزوجته بهطول السيول وانجراف المياه نحوه، فلم يستطع الفرار، واندثرت كل أرجاء المنزل في السيل، وانجرفت ابنتهما (منة ٨ سنوات وجنى ٣) ولم يتمكنوا من إنقاذهما.

لم يجد «نصرالله» حتى الآن جثة ابنته الصغيرة جنة، في مجرى السيل، قائلا بنبرة من الحزن: «أنا بسترزق على الله، والمكنة انجرفت في السيل»، متذكرا آخر مشهد لمنزله القاطن به ٥ أفراد، واندماج بناته في اللعب بالخردة القديمة والبسمة تملأ وجوههم، حتى هبط السيل وانجرفت معه منة وجنى ولم يتبقى سوا ٣ أفراد على قيد الحياة بعدما فقدوا كل ما لديهم.

بينما تروي حنان سيد، والدة الطفلتين منة وجنى والدموع تملأ عينها أملا أن تجد جثة ابنتها (جنى) في السيول: «بيتنا اتخرب وفلوس الجمعيات وأنا مش عاوزة البطاطين والأكل لأنهم مش هيعوضني عن اللي راح.. عايزه أولادي اللي في الميه أنا بقيت عاملة زي المجنونة أنزل أدور كل شوية، قلبي مش مستريح وعاوزة مكان آمن أعيش فيه».

زينب المهدي: مخرجناش من السيول غير بالملابس اللي علينا
لم تتوقع زينب المهدي، القاطنة بعزبة الزرايب منذ ٤٠ عاما وصول المطر إلى ذروته، حتى أنها لم تتمكن من إنقاذ أي شيئ غير أولادها، وسرعان ما فرت بهم فوق الجبل، قائلة: «بيتي اتهد وملناش لقمة عيش غير هنا.. احنا عايشين من الزبالة».

مصطفى علي: بيتي خرب ومش عارف أجيب أكل لعيالي منين
يروي مصطفى علي محمد، أحد ضحايا منطقة الزرايب، أنه يعول ١٠ أفراد ويجمع قوت يومه من القمامة، وفوجئ بالسيل فاختبئ في المنزل مع أسرته، وسرعان ما جرفهم وكل ما لديهم من مقتنيات، ولم يتمكن من إنقاذ أي شيئ سوى عائلته، وبنبرة حزن يقول: «العيلة اللي جمبنا ولادهم كلهم ماتوا من شدة السيل».

واختبئ هو وأسرته في الكنيسة بمعاونة متطوعين ساعدوهم في البحث عن ذويهم، منوها إلى أنهم لم يمتلكوا سوى تلك الملابس البالية التي جاءت لهم من المساعدات، متمنيا أن تعوضهم الدولة وتوفر لهم مأوى آمن.