رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على سعدة يكتب: أخطبوط الفساد

على سعدة
على سعدة

عند عودتى من زيارة قصيرة خارج البلاد استقبلنى زوج ابنتى بالمطار.. ولأننى كنت فى حالة يرثى لها من الإجهاد قام بقيادة سيارتى.. وفى طريق العودة استوقفنا أحد أمناء الشرطة لتجاوز السرعة المقررة، وقام بسحب التراخيص وطلب منا سداد مخالفة فورية ١٥٠ جنيهًا.. سأله زوج ابنتى بصوت منخفض: تاخد ١٥٠ جنيه لمصر ولا ٥٠ جنيه ليك؟ وبهدوء شديد أعطاه الأمين التراخيص، وأخذ الخمسين جنيهًا، قائلًا فى سره: «طبعًا طز فى مصر»، هزنى التصرف غير المسئول بشدة ونهرت زوج ابنتى واعتبرت أن هذا حادث فردى ولن يتكرر.
فى اليوم التالى، اصطحبت مستخلص الجمارك لإنهاء إجراءات دفع الرسوم الجمركية على سيارتى فى إحدى الدوائر بمدينة ساحلية، رأيت المستخلص يدفع فى الأدراج المفتوحة فى كل مكتب، والموظف لا يعترض، بل يقابل ذلك بابتسامة شكر صفراء قبل مراجعة الأوراق والتصديق عليها، أمرت المستخلص بالتوقف عن هذا التصرف الفاسد المخزى، ودخلت بنفسى لمكتب نائب رئيس المصلحة وتجاهلت الدرج المفتوح، وشجعنى على ذلك أن الرجل ملتحٍ ويبدو على وجهه التقوى والصلاح، أنهيت الإجراءات دون أن أدفع شيئًا وخرجت من مكتبه متجهًا لمكتب رئيس المصلحة وأنا سعيد جدًا أن هناك موظفًا شريفًا يتقى الله فى عمله، إلا أن سعادتى لم تكتمل وأنا أستمع للكلمات الصادمة من رئيس المصلحة شخصيًا.. قال لى بالحرف الواحد: إنت مزعل فلان ليه؟ «يقصد أننى لم أدفع المعلوم للموظف الذى توسمت فيه التقوى والشرف».
حان أذان الظهر وإذا بكل الموظفين يهرعون لأداء الصلاة، عندها تيقنت أن هؤلاء السادة يحلّون لأنفسهم الرشوة، ويجدون آلاف المبررات لها دون أدنى شعور بالذنب أو تأنيب الضمير، المبررات تتلخص فى معاناتهم من قلة الراتب فى مواجهة الغلاء الفاحش مع ضخامة التزاماتهم العائلية، وأن هذا رزق من الله، وما المانع فالكل يقبل الرزق الخفى.
وتساءلت: من المسئول فعليًا عن هذا التسيب والفساد، هل هى الحكومة، أم أنه أسلوبنا الخاطئ فى التعامل بالفهلوة واستغلال النفوس الضعيفة لتسهيل أمورنا فى معظم تعاملاتنا مع المصالح الحكومية وغير الحكومية؟!. الواقع أنها مسئولية مشتركة، فالحكومة لا بد أن تتحمل مسئوليتها وتقوم برفع مرتبات صغار الموظفين حتى لا يضطروا للجوء للرشاوى، فليس من المنطقى أن نطلب من موظف محدود الدخل لا يقوى على سد رمق أسرته أن يتمسك بالشرف وهو فى موقع مسئولية تدر عليه الكثير من الأموال لو غض الطرف فقط.
موظف الحى الذى يقبل الرشوة للتغاضى عن مخالفات البناء ويتسبب فى انهيار العقارات وإزهاق الأرواح تحتها لا بد أن نعطيه الراتب الذى يكفل له الحياة الكريمة ليتفادى اللجوء للرشوة.
الظاهرة أصبحت شديدة الخطورة وتهدد بشدة الدخل القومى، سواء فى مصلحة الجمارك أو الضرائب أو المرور.. ولا أبالغ إذا قلت إنها تشمل جميع المصالح والدوائر.. فالأدراج المفتوحة فى كل مؤسساتنا لتسهيل الأمور، الدخان «كما يطلق عليه البعض» هو القاسم المشترك لحل المشاكل وتذليل العقبات دون الانتباه أو المراعاة للمصلحة العليا.
الحل فى رأيى هو أن تبدأ بنفسك، ارفض التعامل بالرشوة، فالراشى والمرتشى فى النار.. تقدم بشكواك لرئيس المصلحة ولا تخف، ولو رأيته فاسدًا صعّد الأمر لمن هو أعلى منه منصبًا، حتى لو اضطررت لتسجيل الواقعة وعمل مذكرة للنائب العام، المعركة قوية والأخطبوط أذرعه لا نهائية، لكن لن نترك بلدنا أبدًا لبعض ضعاف النفوس يسرقون خيراتها دون رادع.
انتهز الفرصة الآن.. فالرقابة الإدارية تقوم بدورها فى هذه الأيام على أوسع نطاق وبمجهود رائع.. ورأينا كبار الموظفين وحتى بعض الوزراء وراء قفص الاتهام.. الدولة جادة فى قطع أذرع أخطبوط الفساد المفزع والأمثلة كثيرة.. يا عزيزى كلنا فاسدون لو فضلنا مصالحنا الشخصية على مصلحة الوطن.
مرة أخرى.. قم بدورك ولا تخشَ إلا الله.