رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هوامش على الحدث الأعظم فى 2020 «2»

محمد الباز يكتب: إنقاذ المتحف الكبير من الماسونية

محمد الباز
محمد الباز

تخفيض نفقات المشروع لم يأت على حساب الجودة أبدًا والتنفيذ على أعلى مستوى وفقًا لتوجيهات الرئيس
الشركة التى كانت مسئولة عن تصميم واجهة المتحف استخدمت رموزًا ماسونية فى مقترحها لكن العبقرية المصرية أوقفت ذلك
المتحف يضم مسلة معلقة على ارتفاع ٣ أمتار لأول مرة فى العالم


لم يكن الكلام الذى سمعته فى المتحف الكبير غريبًا علىّ أبدًا، سمعته أكثر من مرة فى حوارات علنية وأخرى ضمتها الحجرات المغلقة.
يتحدث أحدهم معى عن مشروع مهم من مشروعات الدولة بحماس شديد، يستعرض الفكرة وخطوات التنفيذ والآمال التى كانت معقودة عليه، وفجأة يخبو الحماس مع كلمة «لكن للآسف».
فى كل مرة كنت أسأل عن دواعى الأسف، فتأتى الإجابة بأنه بعد ثورة يناير توقف المشروع تمامًا بسبب الأحداث التى شهدتها البلاد.
عندما قلت ذلك مرة فى برنامجى «٩٠ دقيقة» اعتقد البعض أننى أصفّى حسابات مع ثورة يناير، رغم أنه فى الواقع لا حسابات بينى وبينها، فأنا أراها ثورة عظيمة قام بها نبلاء واختطفها لصوص وقتلة، ولولا يقظة الشعب المصرى فى ٣٠ يونيو لظلت مختطفة حتى الآن.
كان الأمر تقريرًا واقعًا ليس أكثر ولا أقل، فقد كانت هناك مشروعات كثيرة وكبيرة يسير العمل فيها بانتظام شديد، لكن أحداث يناير أصابتها بجلطة شديدة فتوقف سريان الدم المتدفق فى الشرايين.
شىء من هذا حدث مع المتحف المصرى الكبير، وتخيلوا أنه تم وضع حجر الأساس له فى العام ٢٠٠٢، وكان مخططًا أن يتم افتتاحه فى العام ٢٠١٣.
وزير السياحة والآثار، خالد العنانى، كان فى العام ٢٠١٠ ضمن الفريق المكلف بإعداد برنامج الاحتفال بافتتاح المعرض، وكانت هناك تصورات واضحة وجاهزة، لكن العمل كله تعطل حتى وصلنا إلى العام ٢٠١٥.
فى نهايات العام ٢٠١٥ خرج المهندس إبراهيم محلب من منصبه كرئيس للوزراء، وعُين مستشارًا للرئيس للمشروعات القومية الكبرى، ولأنه رجل لا يهدأ ولا يتوقف عن العمل، طلب من كل الوزراء أن يعدوا قائمة بالمشروعات المتعثرة فى نطاق وزاراتهم.
لم يكن الهدف هو إقالة كل المشروعات المتعثرة من عثراتها، ولكن كانت هناك فكرة واضحة، فالمشروع الذى يمكن إنقاذه يتم العمل فيه على الفور، أما الذى لا أمل فيه فلا داعى لتبديد الوقت والمال لإيقافه على قدميه مرة أخرى.
تراكمت على مكتب إبراهيم محلب ملفات كثيرة لمشروعات بلا حصر ولا عدد، من بينها كان ملف «مشروع المتحف المصرى الكبير»، الذى قدّمه له وزير الآثار وقتها، ممدوح الدماطى، أمسك محلب بالمشروع مستعيدًا ما قيل عنه لحظة إطلاقه الأولى فى العام ٢٠٠٢، فهو ليس مجرد متحف، بل هو مشروع عالمى تقدمه مصر للعالم كله، فصحيح أننا نملك الآثار ملكية مادية كاملة، لكن العالم كله يشاركنا فى ملكية المعنى الذى تحمله هذه الآثار.
لم يكن الطريق سهلًا ولا ممهدًا، ففى بداية المشروع كانت تكلفته ٨٠٠ مليون دولار، زادت إلى ما يقرب من مليار و٦٠٠ مليون دولار، نحن نتحدث عن الضعف تقريبًا، وهو ما كان يجعل الحديث عن استكمال المشروع فى حكم المستحيل وعرف المعجزة.
قام إبراهيم محلب بتشكيل لجنة من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ووزارة الإسكان، كان التكليف الذى تلقته بوضوح هو دراسة تعثر المشروع، وإيجاد حلول لإنقاذه.
كان رئيس هذه اللجنة هو اللواء عاطف مفتاح، الذى عكف هو وفريقه على الدراسة الجادة، ودرس مسألة تخفيض التكلفة، وهو ما نجح فيه، عرض الميزانية الجديدة على محلب فى نهاية العام ٢٠١٥، وعلى الفور نقل الصورة كاملة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى ليكون القرار بعدها فى صالح استكمال المشروع.
وصل الملف إلى الرئيس فى بدايات العام ٢٠١٦، فسلك الطريق الذى يعرف أنه سينجز المهمة على أكمل وجه، كلف الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة بتنفيذ المشروع، وهنا يظهر التحدى الأكبر، فقد كان التكليف مشفوعًا بتوجيه رئاسى تلخصه عبارة محددة: «مع ترشيد التكلفة اللازمة لتنفيذه دون الإخلال بأى جزئية فيه».
هنا يظهر اسم اللواء عاطف مفتاح مرة أخرى، فقد أصبح مسئولًا عن المشروع بتكليف رئاسى، بدأ هو والفريق الذى يعمل معه المهمة التى اعتبرها البعض مستحيلة.
قال لنا ونحن نجلس معه قبل أن نقوم بجولتنا فى المتحف: المهمة كانت صعبة لكننا تصدينا لها تمامًا، بدأنا من المبدأ الأهم، وهو كيف نقوم بترشيد الميزانية دون أن نمس المشروع فى صورته المُثلى، وبالفعل وصلنا فى المحاولة الأولى لأن تكون التكلفة ٩٥٠ مليون دولار، بتوفير ٦٥٠ مليون دولار، وفى المرحلة الثانية وصلنا بالتكلفة إلى ما يقرب من ٨٠٠ مليون دولار، وباجتهاد محسوب وصلنا إلى ٧٧٠ مليون دولار، لكن بفعل زيادة الأسعار استقرت التكلفة عند ٨٣٠ مليون دولار، وبذلك يكون ما تم توفيره هو ٧٧٠ مليون دولار.
يمكن أن تتوقف عند الرقم لأنه ليس قليلًا.
يمكن أن تقول إن هذا حتمًا سيأتى على حساب الجودة.
يمكن أن تقول إن تكليف الرئيس بترشيد الإنفاق لا يمكن أن يتم بهذه الصورة دون أن تهدد المستوى الذى سيكون عليه المشروع.
لكن ما رأيك أن أعرض لك مثلًا واحدًا لعملية التوفير هذه.
أعود إلى اللواء عاطف مفتاح، كان مصمم المتحف قد طلب رخامًا مضيئًا لتركيبه فى حائط الواجهة، وكانت تكلفته تتراوح بين ٢٠٠ و٢٥٠ مليون دولار، واشترط أن يتم استيراد الرخام من أحد محاجر مقدونيا، رغم أنه نفسه موجود فى محاجر بلدان أخرى، بدراسة هذه الجزئية وجدت الهيئة الهندسية أن محجر مقدونيا يمارس ضغوطًا كبيرة لرفع السعر، فقررت البحث عن بديل آخر.
كان لا بد من عرض الأمر على الرئيس، توجه له اللواء عاطف مفتاح بالفكرة التى تقوم على تصميم شكل جديد لواجهة المتحف تقوم به الهيئة الهندسية، وهو ما وافق عليه الرئيس بعد الدراسة والتأكيد على الجوانب القانونية فى التغيير والتبديل.
بالفعل تمت استشارة الفريق القانونى الذى أجمع أعضاؤه على أن وزارة الآثار من حقها تمامًا أن تقوم بتغيير التصميم القديم إذا رأت أن هناك ما يشكل أفكارًا مغلوطة أو لا تعبّر عن حقيقة الحضارة المصرية، وهو ما جرى بالفعل.
وهنا تظهر عبقرية جديدة من عبقريات كتاب المتحف المصرى الكبير.
كانت الشركة التى فازت بمسابقة التصميم المعمارى للمتحف هى الشركة الإنجليزية «هينجان بنج» Heneghan peng، ولأن المتحف يقع أمام أهرامات الجيزة، فقد اختارت أن يتم تصميم الواجهة على شكل مثلثات، كل مدى تنقسم إلى مثلثات أصغر، فى إطار رمزى للأهرام، استنادًا إلى نظرية لعالم بولندى تتحدث عن التقسيم اللانهائى لشكل المثلث.
لاحظ البناءون المصريون الجدد أن تصميم واجهة المتحف بهذا الشكل يحمل رموزًا ماسونية واضحة، لم يتعاملوا بسوء نية مع من وضعوا التصميمات، لكنهم أدركوا أن هناك رغبة فى اختطاف أكبر متحف عالمى بعيدًا عن أصوله وجذوره المصرية لأهداف لا تخفى على أحد، فهناك إصرار من دوائر عديدة فى العالم على أن الإنجاز الحضارى الموجود على أرض مصر ليس مصريًا خالصًا، ولكن هناك آخرين شاركوا فيه.
بهدوء شديد تم تغيير التصميم الماسونى لواجهة المتحف، ليصبح تصميمًا مصريًا خالصًا.
أصبحت الواجهة هى «حائط الأهرامات» الذى يضم ٧ أهرامات، بينها ٣ مضيئة يمر من خلالها العابر إلى المتحف إلى المدخل الرئيسى حتى يصل إلى بهو رمسيس الثانى، حيث يقابلك بعظمته وشموخه، ليس هذا وفقط، فهناك نافذة زجاجية شفافة توضح شكل الأهرامات المضيئة من الجهة الأخرى.
لم نتحدث عن التوفير كيف تم حتى الآن.
فى الواجهة الجديدة التى عالجت قصورًا آخر فى الواجهة القديمة- وهو أنها كانت تبتعد عن جسم المتحف ١٧ مترًا- تم استخدام خامات مصرية كاملة، وهو ما أسهم فى توفير ما يقرب من ١٨٠ مليون دولار.
ونحن نصعد الدرج الكبير الذى هو جانب آخر من جوانب عظمة المتحف الكبير، وكان اللواء عاطف مفتاح يشرح لنا كيف أن هذا الدرج، الذى ينتهى بك إلى أن تقف وجهًا لوجه أمام الأهرامات الثلاثة، ستكون عليه قطع أثرية تصل إلى ٥ آلاف طن، كان السؤال لدى الشركاء الأجانب هو: كيف سيتم رفع هذه القطع كل هذا الارتفاع؟ اقترح اليابانيون أن يصمموا رافعة إلكترونية حديثة، وقالوا إنها ستتكلف حوالى ٤ ملايين دولار، ولأن المبلع كان كبيرًا، قال لهم اللواء مفتاح: لن نحتاج إلى هذه الرافعة، لدينا خبرة أجدادنا، نعرف كيف كانوا يرفعون كل هذه الأوزان.
استقر اللواء عاطف مفتاح بالفعل على الخبرة المصرية التى طورها لرفع هذه القطع الأثرية الهائلة على الدرج العظيم، وفى الوقت نفسه تم توفير ما يقرب من أربعة ملايين دولار.
الإضافات المصرية للمتحف لم تتوقف عند هذا الحد، وهو ما يشير إلى أننا أمام إنجاز مصرى خالص، صحيح أن هناك شركاء أجانب، لكن العقل المصرى يتعامل بإبداع مطلق وجرأة فى التنفيذ.
لم يتخلص هذا العقل من الرموز الماسونية فقط التى كانت تحتل واجهة المتحف الكبير، كانت هناك مشكلة أخرى، فالتصميم القديم لبهو «رمسيس الثانى» كان يصور الملك المصرى على أنه «فرعون الخروج»، والمعنى واضح، فتم التفكير فى تغيير هذه الهوية.
جلس اللواء عاطف مفتاح مع الأثريين الذين يشاركونه العمل، واستقر رأيهم على وضع أكثر من قطعة أثرية فى البهو، بدلًا من انفراد تمثال رمسيس وحده بها، ووقع الاختيار على مسلة رمسيس الثانى، التى كانت موجودة ومهملة فى منطقة صان الحجر بالشرقية.
مسلة صان الحجر لها ما يميزها، فطولها يبلغ ١٧ مترًا ووزنها يصل إلى ١٢٠ طنًا، وتحتفظ بألوان زاهية ونقوش زاهية ونقوش غائرة، وتم اكتشاف خرطوش على قاعدتها، فالمعتاد أن تكون هذه الخراطيش التى تحمل معلومات أساسية عن صاحب المسلة على جوانبها فقط.
كان هناك تفسير لوجود خرطوش على قاعدة المسلة وهو بأن الملك كان يخشى أن يأتى أحدهم بعده، وعلى عادة القدماء أن الجديد كان يمحو آثار القديم، ولذلك سجّل الملك ما يخصه على القاعدة حتى لا يُمحى، ومن هنا تولّدت الفكرة التى هى الأولى فى العالم، ومن الحق أن ننسب الفكرة لصاحبها، وهو اللواء عاطف مفتاح.
أما الفكرة فهى أن تكون لدينا ولأول مرة فى العالم مسلة معلقة على ارتفاع ٣ أمتار، عن طريق رفعها على أربعة أعمدة حرة، يستطيع زائر المتحف أن يرى كل جوانبها ويرى فى الوقت نفسه الخرطوش المستقر على قاعدتها.
كان اللواء عاطف مفتاح يشرح لنا كيف توصل إلى الفكرة بتواضع شديد، فهو حريص على التأكيد أنه لا يعمل بمفرده، وهو ما يؤكد أننا خرجنا من مساحة العمل الفردى إلى العمل الجماعى الذى يقف وراء كل هذا الإنجاز.
حكاية المسلة المعلقة التى سيتم رفعها فى مدخل المتحف الكبير مجرد جزء من الحكاية الكبيرة.
الدكتور خالد العنانى، وزير الآثار والسياحة، استوقفنا قبل أن نصل إلى موقع أعمال رفع المسلة قليلًا، قال لنا: كل ميادين العالم فيها مسلات، ونحن الآن نعمل على رفع ١٧ مسلة فى أنحاء الجمهورية المختلفة، وبذلك نصل إلى عدد المسلات المقامة فى روما وحدها.
كانت الإشارة واضحة جدًا للجميع، فالعالم كله يحتفى بآثارنا ويقدّرها وينزلها المنزلة التى تستحقها، أما نحن فقد كنا مقصرين ولدرجة كبيرة فى حق آثارنا، لكن على أى حال فقد بدأنا الطريق الذى كان يجب أن نبدأه منذ زمن بعيد.
استمعت إلى الدكتور خالد العنانى الذى كان يتحدث بفخر عما يفعله، ورددت بينى وبين نفسى الحكمة الإنسانية الخالدة: أن تصل متأخرًا خير من ألا تصل.