رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ست زوايا للصلاة».. قصص غارقة في السواد والنزف

جريدة الدستور

عن دار العين للنشر، صدرت المجموعة القصصية الأولى للكاتبة أميرة بدوي، بعنوان "ست زوايا للصلاة" وهو الكتاب الأول للمبدعة التي تطرح آلام العيش والحياة ومرارات الفقد وموت الأحبة والمقربين بآليات سردية محكمة، تقف ما بين عتبتي الحدة والجنون، في لملمة ما ترمي به العادات والتقاليد والطقوس اليومية، في بلاغة لغوية تقف على حدود كل من الجنون وجدة الخلخلة لنسف وتبديد التراث الجمعي الغاشم الذي لم يتغير كثيرا. ولم يتبدد فيما تم طرحه أو معالجته من كتابات لاتنسى قمتها أسماء مثلت علامات فارقة في ماهيات ومسارات التناول الوحشي والمجرد مثال عناوين وكتابات كل من يوسف إدريس وعبد الحكيم قاسم ويحيى حقي وصبري موسى وأحمد الشيخ.

أميرة بدوي تطرح الريف المصري أو خارطتها فيما يخص رؤيتها للقرية بشكل جارح وكاشف وليس فضائحي كونه بُلوِر بلغة رشيقة واعية من ساردة كان لعلاقتها بالترجمة الأثر والبصمة المتفردة فيما يخص قنص المغاير والبليد والمستفحل الراسخ في وعاء ومتون وتفاصيل قرى مصر وريفها وذلك من خلال حكايا تشبه ماكان يحدث في بدايات القرن الثامن عشر والتاسع عشر في قرانا التليدة، حيث العنف ورائحة الدم والغدر على وقع حسية غارقة في جدية وصلابة وقوام لغة تهشم البنى الدرامية وفي نفس الوقت تعلي من سقف الرفض والاحتجاج بأنات مكتومة يزخرفها وعي فارق تملكه الكاتبة فيما يخص عالمها، وعالمنا هذا الناجع، الميت الحي، المتكرر الصارخ في البرية محلقًا بتماس ويشتبك بضمائرنا ونفوسنا الجمعية كبشر وحيوات ناس، ومعيشي قبل حتى تفاصيل المسكوت عنه، وهو ليس بمسكوت ولا محجوب إلا فيما يخص السكوت عنه كعرف وآليات تمرح في المعيشي واليومي والمتكرر علانية.

أميرة بدوي التي تطرح أولى أعمالها الكتابية في الحقل القصصي العائد بقوة ليثبت جدارة الاختلاف في فضاءات القنص وتكثيف اللحظ، تجول في نصوصها الغارقة في السواد والنزف والقهر والتسلط وتضفيرهم بآليات مادية فرضها واقع الغشم وإنعدام الضمير حيث ترى تلك الشخوص التي تتحرك على مسرح الأحداث، أو في كهوف وخصاص وبيوت واسطح الخبايا، وحيث تسكن العورات وهي ليست بعوارات. بل موروث عتيق زاخر بالقمع والدم والعنف والتجريح والفضح، حتى كاد، أو صار بالفعل، طقسًا يوميًا ثابتًا ومتكررًا متنقلًا من بيت لآخر ومن عش لآخر، ومن فوق تخوم القرية صعودًا لقلبها بتلك الحواديت التي ترمي بالمواطن العادي قبل القاريء إلى الاشتباك الجاد والحيوي للبحث والمشاركة لإيجاد حلول لفض هوات وأغوار تلك الأبيار التي تنضح بطقوس العشائر والأهالي وعلاقتهم بالعادات والتقاليد التي لم ولن يمحيها لا دم ولا أحجية ولا تمسك خرافات ترسخت في ذهن الإنسان الذي يحيا في قرى ونجوع وريف مصر، فصارت شيء "عادي" ومتعارف عليه مثل، القفز أو النط.. على البيوت والأسطح لفض أحجية المستتر فيما هو قابع في الأجساد والأرواح والأنفس من شهوة وحب وقتل وثار وفقر.

"ست زوايا للصلاة " تحتوى على اثنتي عشر نصًا وهم قوام المجموعة، في كتاب من مائة صفحة من القطع المتوسط، يزغرد لاهثًا بتعرية الراسخ والمسكوت عنه والشبحي الرائج الذي صار واقعًا متعارفًا عليه في تلك القرى التي لا تحددها الكاتبة إلا بشذرات من حفر جمالي بليغ وواثق وحاد وجاد ودموي يحثنا على النظر برحمة لتلك المأساة والتي تدور رحاها في جنبات قرى وريف مصر، بلغة تملك فرادة اصطباغ وتلون الحدث بزخرف لغة ترجرج الحكاية بل وتخلخل الثابت والمورث حتى فيما يخص المتفق عليه في ماهية السرد الحريفة التي تناولت نفس المشكلات الاجتماعية والانسانية من قبل فنجد مثلًا في قصة النداهة صفحة 49 "لشتاء هنا مائل للزرقة، يأكل العظم والبيوت، ميزان ماء يحمي ظهر الناس، رغم الشاي الأحمر وشكائر الفحم" اللغة في تلك النصوص والتي تكتب بها أميرة بدوي أول مؤلفاتها، هي لغة ملغزة يبطنها الدم والشر ورسوخ تاريخ تليد من القسوة والعنف واللا رحمة والتشوه والتسلط، وكأن الطبيعة والحياة والطقس هم ضد البشر وبالتحديد هؤلاء المنسيون الثكالى في قرى وريف مصر، "ست زوايا للصلاة " والصادرة منذ أسبوع عن "دار العين للنشر" تبشر، بل تعلن عن موهبة جديدة في المشهد السردي والقصصي المصري حيث أنه لا جديد فيما نحيا، إلا بتلك الكيفية ومذاق وفتنة الطرح واللغة وبنية الحكايا الخفاقة برؤى الجحيم والجنة في آن، أميرة بدوي تعمل بالترجمة وهي من مواليد المنوفية، تخرجت من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وحاصلة على منحة "أفاق" البيروتية عن عملها هذا "ست زوايا للصلاة " ولها تحت الطبع ترجمة للعربية لروايتين "في الحي الإسباني" لـ "هيدي غودريتش"، و"غرفة يعقوب" رواية فرجينيا وولف، ومنتظر صدورها من دار " إبييدي ".