رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيف الله «5»

الحقيقة فى قصة خالد بن الوليد ومالك بن نويرة

جريدة الدستور

تتواصل، هذه الأيام، تحضيرات المسلسل الرمضانى الأضخم «سيف الله.. خالد بن الوليد»، الذى تنتجه شركة سينرجى، عملاق الإنتاج الفنى فى مصر، عن شخصية الصحابى الجليل، من بطولة الفنان عمرو يوسف، سيناريو وحوار إسلام حافظ، وإخراج رءوف عبدالعزيز. ويستند العمل المنتظر إلى كتاب الأديب الكبير عباس محمود العقاد «عبقرية خالد»، ضمن سلسلة «عبقريات العقاد»، حيث يلقى الضوء على نشأة خالد بن الوليد وإسلامه وعبقريته العسكرية. ومع ترقب كثيرين العمل التاريخى تنشر «الدستور» فصولًا من كتاب «عبقرية خالد»، لنقترب أكثر من شخصية القائد العسكرى الأعظم فى تاريخ الإسلام قبل أن نراه على الشاشات فى رمضان ٢٠٢٠.

فى أول المرحلة الثانية من حروب الردة، نرى خالدًا بـ«ذى القصة»، حيث عقد له الخليفة لواء القيادة على جيش لا تتجاوز عدته أربعة آلاف مقاتل، أكثرهم من أبناء القبائل الموالية وأقلهم من المهاجرين والأنصار، ووجهته إلى «بزاخة» من أرض بنى أسد، حيث اجتمع بنو أسد وقيس وحلفاؤهم إلى المتنبى القائم بأمر الردة هناك طليحة ابن خويلد.
وربما كان الصحيح أن خالدًا إنما استقل فى أول هذه المرحلة بعمل القائد العسكرى فى تنفيذ خطة مرسومة بتفصيلاتها، إذ كانت هذه الخطة متفقًا عليها بينه وبين الخليفة، وكان الخليفة اليقظان يأمره بما يصطنع خطوة بعد خطوة، وينبهه إلى مواقف القبائل ومواطن الخطر منها على درجاته، ويصحبه إلى بداية طريقه.
قال الخليفة وهو يودع الجيش: «أيها الناس، سيروا على اسم الله وبركته، فأميركم خالد بن الوليد إلى أن ألقاكم، فإنى خارج فيمن معى إلى ناحية خيبر حتى ألاقيكم».
ثم خلا بخالد وأسر إليه أمرًا، ثم قال: «... عليك بتقوى الله، وإيثاره على سواء، والجهاد فى سبيله، والرفق بمن معك من رعيتك، فإن معك أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار فشاورهم فيما نزل بك ثم لا تخالفهم، فإذا دخلت أرض العدو فكن بعيدًا من الحملة فإنى لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد وسر بالأدلاء، وقدم أمامك الطلائع ترتد لك المنازل، وسر فى أصحابك على تعبئة جيدة، واحرص على الموت توهب لك الحياة، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإن فى العرب غرة، وأقلل من الكلام وأقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله فى سريرتهم، وإذا أتيت دارًا فاقحم. فإن سمعت أذانًا أو رأيت مصليا أمسك حتى تسألهم عن الذين نقموا ومنعوا الصدقة، فإن لم تسمع أذانًا ولم تر مصليّا شن الغارة، فاقتل وأحرق كل من ترك واحدة من الخمس... وإذا لقيت أسدًا وغطفان فبعضهم لك وبعضهم عليك، وبعضهم لا عليك ولا لك متربص السوء ينظر لمن تكون الدبرة فيميل مع من تكون له الغلبة، ولكن الخوف عندى من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغنى أنهم رجعوا بأسرهم، فإن كفاك الله الضاحية فامض إلى أهل اليمامة.. سر على بركة الله».
ولم يكن الخليفة على نية المسير إلى خيبر كما أعلن أمام الناس، ولكنه لم يشأ أن يعلن سير الجيش إلى «بزاخة» نصًا لمقاصد متعددة: منها أن يخيف بطون طيئ حين يقصد إليهم جيش خالد بقضه وقضيضه فيجهز على بقية التردد التى تهجس فى صدورهم، ومنها أن يقنع طليحة بإرسال من عنده من طيئ لنجدة إخوانهم والدفاع عن بلادهم، ومنها أن يدهم طليحة على غرة وهو يظن أن الجيش متجه إلى غير «بزاخة» ومنصرف عنها إلى حين، ومنها أن يلزم أهل خيبر أماكنهم فلا يشتركوا فى قتال..
وقد عمل خالد بهذه الخطة، فمضى فى طريق «بزاخة»، ثم عرج إلى اليسار قبل منتصف الطريق كأنه يريد الحملة على ديار طيئ، وهناك وافاه فوق الألف من مقاتلة البطون الطائية من تخلى عن طليحة أو كان على نية اللحاق به بعد قليل.
وقبل أن يستوى خالد فى طريقه إلى «بزاخة» جاءه أناس من الطائيين فعرضوا عليه أن يكفوه حرب قيس ويعفيهم من حرب بنى أسد لأنهم حلفاؤهم منذ الجاهلية. ولم يكن عدى بن حاتم على رأى قومه فقال لخالد: لو ترك هذا الدين أسرتى، الأدنى فالأدنى من قومى لجاهدتهم عليه. أفأنا أمتنع عن جهاد بنى أسد لحلفهم؟.. فلم يشأ خالد أن يُكره أناسًا على حرب من يسالمونهم ولا يتحمسون فى قتالهم، وقال لعدى: «لا تخالف قومك، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط، والله ما قيس بأوهن الشوكتين. امضوا إلى أى القبيلتين أحببتم».
وأتم تعبئته للقتال وهو على الطريق، فجعل القبائل على ميمنته والأنصار والمهاجرين على ميسرته، وصمد هو فى القلب مع فئة من هؤلاء وهؤلاء..
أما طليحة، فالظاهر أنه كان أحذر من أن يؤخذ على غرة، فإنه قد رصد العيون على فجاج الصحراء فعلم بمقدم المسلمين قبل وصولهم إلى «بزاخة»، وأعد العدة لكلتا الحالتين من غلبة وفرار، فعزل أكثر النساء فى مكان أمين، لئلا يقعن فى السبى إذا دارت الدائرة عليه، وأقام حوله أربعين فارسًا من أشد فتيان بنى أسد ليدرأوا الهجمة عنه، كأنه كان يعلم أسلوب خالد فى قتاله، إذ كان وكده قبل كل وكد أن ينحى بالضربة المصمية على رئيس القوم فيفت فى أعضاد القوم جميعًا بقتله أو إكراهه على الفرار، ولم يكن طليحة جبانًا يتنحى عن الطعن والضرب وراء غيره، بل كان مشهورًا بالشجاعة معروفًا عنه أنه أقسم لا يدعوه أحد إلى مبارزة إلا أجابه، ولكنه كان على شجاعته أميل إلى الحذر والحيطة منه إلى المجازفة والحماسة، وكان فى هذه الخصلة نقيض نده الذى يصاوله وينازله بالسلاح والأخلاق، فكان خالد أقرب إلى المجازفة والحماسة منه إلى الحذر والحيطة.
ولقد كانت لجيش طليحة مزيتان هما الكثرة والراحة.. فقد كان جيشه يربو على جيش المسلمين بألف مقاتل أو زيادة مع وفرة السلاح والركائب، وكان مستريحًا فى دياره على خلاف جيش المسلمين، الذى كان عليه أن يلقاه بعد مسير مئات من الأميال فى الأودية والجبال.
ولهذا أوشك أن يفوز بيومه لولا عزمة من عزمات القيادة التى تأتى فى إبانها وتدور برحى الحرب من طرف إلى طرف فى ساعات معدودات.
فلما التحم الجيشان، ثبت طليحة وأصحابه ثبات المستميت، وكروا على المسلمين كرة عنيفة فكشفوا الميمنة ولحقت بها الميسرة وانقضت هنيهة خيل فيها إلى المسلمين أنهم منكسرون لا محالة، وجاء بعض بنى طيئ إلى خالد. ينصح له أن يتراجع يومه ليعتصم بجبال طيئ ويستدرج المرتدين إليها، فأنكر عليه نصيحته وزجره قائلًا: لا أعتصم بغير الله!
ثم عول على الكرة فى كلية الجمع ليبلغ النصر أو يموت دونه، فأرسل فرسه وترجل مقاتلًا على قدميه، ليملك الحركة حيث يشاء ويبعث القدوة فى قلوب صحبه، ونادى بالأنصار كأنه ذكر موقف النبى يوم حنين: يا أنصار الله.. فلبوه مندفعين إليه، وثاب أبناء القبائل إلى مواضعهم فاستحر القتل فى الفريقين حتى قتل حرس طليحة جميعًا، واستقر هو فى «دثار الكهانة» يوهمهم بأنه يتلقى الوحى أو ينتظر المدد من السماء.
وقد كان أتباعه يحبون أن يؤمنوا به مجاملة له ومرضاة لكبرياء القبيلة فى أنفسهم، فلما جد الجد أحبوا أن يروا لهذا الإيمان علامة، وسأله زعيم فزارة عيينة بن حصن وهو من أعز أنصاره وألد أعداء المسلمين: هل جاءك جبريل؟ قال: لا.. ثم رجع له مستعجلًا وحى السماء صائحًا به- وقد نسى فى غضبه أنه يخاطب على زعمه نبيًا من الأنبياء: لا أبالك أجاءك صاحبك؟ قال: لا.. فصاح به: حتى متى؟ قد والله بلغ منا. فلما عاوده الثالثة خجل أن يجيبه جوابه الأول وقال له: نعم.. جاءنى وأوحى إلىّ «أن لك رحى كرحاه، وحديثًا لا ننساه..» فسخر منه عيينة وقال: «نعم.. هو حديث لا ننساه»، ونادى فى قومه وهو مؤمن بهزيمة طليحة وإدبار أمره: انصرفوا يا بنى فزارة.. إنه لكذاب، وجعل طليحة يسألهم من حيرته ما يهزمكم؟ فأجابه أحدهم: «أنا أحدثك ما هزمنا، إنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قومًا كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه».
وأدرك طليحة حذره، وكان قد أعد لهذا الحذر عدته، فركب فرسه وأردف امرأته النوار على راحلة وراءه، ونجا بها وهو ينادى أتباعه:
«من استطاع أن يفعل هكذا فليفعل»، وما زال فى فراره حتى لحق بالشام.
وتعقب خالد فلول المرتدين ومن مالأهم من قبائل هوازن وسليم حتى لحق بهم فى ظفر، حيث أحاطوا بسلمى أم زمل وهى كأمها من قبلها مضرب المثل فى العزة والمنعة. كان يقال عن أمها «أعز من أم قرفة»، لأنها تعلق فى بيتها خمسين سيفًا، كل سيف منها لرجل من ذويها، وقد سبيت هى فى عهد النبى عليه السلام فأعتقتها السيدة عائشة رضى الله عنها، فذهبت إلى قومها مغضبة لتلك العزة التى انتهى بها عناد قومها إلى الأسر والخدمة، واستثارت حمية الرجال بهذه الغضبة التى تثير الطبيعة البدوية ولو لم تجتمع إليها بواعث أخرى للغضب والثورة.. فدار بين خالد وبين جيشها أحر قتال، ووقفت هى على جمل مشهور تضرم النخوة فى قلوب جندها، وترد الشجاعة إلى من أدبر للفرار، ومضى اليوم وهى تكافح ومن حولها زعماء جيشها يكافحون، فجعل خالد مائة من الإبل لمن يصيب الجمل.. وأرسل نخبة من فرسانه عليه فعقروه، وقيل إنهم لم يصلوا إليه حتى قتل من دونه مائة رجل من حماتها المستيئسين.
وقد تفرقت سرايا خالد فى أثر المنهزمين تضربهم وتجمع الأسلاب والغنائم وتدعو إلى الإسلام.
فلم تمض أيام حتى كان قد فرغ من مهمتيه الأوليين، وهما: الإنذار والتغلب على الفتنة، وبقيت مهمته الأخيرة وهى القصاص والتأديب، ولعلها كانت ألزم وأحزم من قمع الفتنة وتمزيق الجيوش، لأن المرتدين كانوا قد أسرفوا فى التنكيل بالمسلمين الذين أصابوهم بينهم ولم يتورعوا عن مثلة من المثلات التى يتورع عنها المقاتل الكريم، وأصابوا أولئك العزل المنفردين فى غير ساحة حرب وبغير نذير من قتال، فكانت أوامر الخليفة إلى خالد صريحة ألا ينى فى عقاب المعتدين: «ولا يظفرن بأحد قتل المسلمين إلا قتله ونكل به غيره».
ولم يكن خالد فى مواقف الصرامة والبطش بحاجة إلى توكيد وتشديد، فلم يقبل من المرتدين إلا أن يأتوه «بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على المسلمين». ومثل بهم فأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة ورمى بهم من الجبال كفعلهم بأولئك الأبرياء الغافلين عن عدوانهم الذميم، وقاد رؤساءهم فى جوامع الحديد إلى الخليفة ليصنع بهم ما يشاء.
وذلك درس لا شك أنه عنيف مخيف، ولكن لا شك أنه عادل فى شرعة الحرب والسلم، وأنه لازم كل اللزوم فى أحوال كتلك الأحوال.
وأيا كانت المثلات بالمرتدين، فهى على التحقيق لا تتجاوز المثلات التى تؤمر بها «حملات التأديب» فى عصرنا هذا لمعاقبة أناس لم يقترفوا مثل ما اقترفه المرتدون، ولم يقرنوا فعالهم بجريرة الخروج على عقيدة أو شريعة، ولا بتهديد الدولة فى كيانها وهى أحوج ما تكون إلى الأمان والضمان..
ومع هذا وجد من كبار المسلمين من لام خالدا على الإمعان فى تأديبه على النحو الذى نحاه، فقال عمر بن الخطاب للخليفة مُنكرا إحراق الناس: بعثت رجلًا بعذاب الله؟ انزعه!
فلم يستمع إليه الخليفة، لأنه كان فى حنقه على المرتدين لا يستعظم عليهم ضربًا من ضروب العقاب.
ومهما يكن من مجاراة هذا العقاب لطبع خالد - فهذه البعثة بين بعثاته جميعا هى بعثة التنفيذ المحض الذى لا يشوبه نصيب من الاستقلال، اللهم إلا استقلال القائد الكفء بحسن القيام على ما وكل إليه..

لما نزل خالد بالبطاح لم يجد أمامه أحدًا يلقاه بزكاة أو يلقاه بقتال.. فعسكر حيث نزل وأرسل السرايا فى أثر هذا البطاح، فجاءته بمالك بن نويرة فى نفر من بنى يربوع، فحبسهم ثم أمر بقتلهم، وحدث بعد ذلك أنه تزوج بامرأة مالك ليلى أم تميم، وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال، ولا سيما جمال العينين والساقين.. يقال إنه لم ير أجمل من عينيها ولا ساقيها.
وتضطرب الروايات هنا أبعد اضطراب وأصعبه أن تهتدى منه إلى مخرج متفق عليه.
فمن قائل إن السرايا وجدت بنى يربوع يصلون وسمعت الأذان، ومن قائل: لم نر صلاة ولم نسمع بأذان.
ومن قائل إن الأسرى قتلوا لأن الليلة كانت باردة ونادى منادٍ من قبل خالد أن «دافئوا أسراكم»، ففهم الحراس أنه يريد القتل، لأنهم من بنى كنانة والمدفأة بلهجتهم كناية عنه.
ومن قائل إن مالكًا قتل بعد محادثة حامية جرت بينه وبين خالد.. ثم تضطرب الروايات فى نقل حديثهما، فلا يدرى له نص صحيح. فقيل إن مالكًا صرح بأنه لا يعطى الزكاة وإنما يقيم الصلاة، فقال خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معًا لا تقبل واحدة دون الأخرى؟ فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك، فاتخذ خالد قوله دليلًا على تبرئه من النبى وقال له: أو ما تراه لك صاحبًا، ثم حمى الجدل بينهما حتى أمر بقتله، ونسجت الخرافة بعد ذلك نسيجها الذى لا يتماسك لوهيه، فزعموا أن خالدًا أمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرًا فأكل منه، وأن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج اللحم ولم يفرغ الشعر! وهى خرافة تروى، لتدلنا على شىء واحد: وهو وجود المحنقين الراغبين فى التشهير بخالد وتبشيع أعماله وإيغار الصدور عليه.
وقيل إن مالكًا لمح فى عينى خالد الإعجاب بامرأته فصاح به: هذه التى قتلتنى، فقال له خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام.
ويذهب بعضهم إلى أكثر من هذا، فيزعمون أن هوى خالد لها سابق لحرب الردة، وفى ذلك يقول أبونمير السعدى:
قضى خالد بغيًا عليه بعرسه وكان له فيها هوى قبل ذلك
وقيل إن خالدًا توعد مالكًا بالقتل، فقال له مالك: أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال خالد: وهذه بعد تلك؟ ثم تكلم أبوقتادة الأنصارى وعبدالله بن عمر فى أمره فكره خالد كلامهما، وعاد مالك يقول له: يا خالد ابعثنا إلى أبى بكر فيكون هو الذى يحكم فينا، فقال خالد: لا أقالنى الله إن أقلتك، وتقدم إلى ضرار بن الأزور أن يضرب عنقه.. ويزيدون على ذلك، أن خالدًا دعا أبا قتادة الأنصارى وعبدالله بن عمر إلى حضور عقد الزواج بليلى بعد مقتل زوجها، فأبيا وأشارا عليه أن يكتب إلى أبى بكر، فلم يستمع إليهما.
وغضب أبوقتادة، فأقسم لا يجمعه بعد اليوم وخالدًا لواء واحد، وقفل إلى المدينة غير مستأذن من قائده، فلقى الخليفة ولقى عمر بن الخطاب، فكانت غضبة عمر أشد وأعنف، وطلب إلى الخليفة أن يعزله وأن يقيده قائلًا: إن سيفه فيه رهق، فلم يجبه الخليفة وقال له: يا عمر، تأول فأخطأ، ارفع لسانك عن خالد. فإنى لا أشيم سيفًا سله الله على الكافرين.
ولكنه ودى مالكًا واستدعى خالدًا إليه، فلما قدم إلى المدينة رأى عمر منه ما زاده غضبًا وشدة فى طلب القود منه. رآه قد دخل المسجد وعليه قباء وقد غرز فى عمامته أسهمًا. فنهض إليه فنزعها وحطمها وصاح به: «قتلت امرءًا مسلمًا، ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك».
فتركه خالد ولقى الخليفة فاعتذر إليه. فعنفه الخليفة وأمره أن يفارق ليلى ثم عفا عنه واستبقى خدمته، فعاد خالد إلى المسجد وفيه عمر.. فبادره حين رآه مناجزًا: هلم إلى ابن أم شملة، فعرف عمر أن الخليفة قد عفا عنه، فلم يكلمه ودخل بيته.
وحسبنا من هذه الأقوال جميعًا أن نقف منها على الثابت الذى لا نزاع فيه.. والثابت الذى لا نزاع فيه أن وجوب القتل لم يكن صريحًا قاطعًا فى أمر مالك بن نويرة، وأن مالكًا كان أحق بإرساله إلى الخليفة من زعماء فزارة وغيرهم الذين أرسلهم خالد بعد وقعة البزاخة، وأن خالدًا تزوج امرأة مالك وتعلق بها وأخذها معه إلى اليمامة بعد لقاء الخليفة.
وأوجب ما يوجبه الحق علينا بعد ثبوت هذا كله أن نقول: إن وقعة البطاح صفحة فى تاريخ خالد كان خيرًا له وأجمل لو أنها حذفت ولم تكتب على قول من جميع تلك الأقوال، لأنها لم تضف إلى فخاره العسكرى كثيرًا ولا قليلًا، وأهدفته لملام أحمد ما يحمد منه أن له عذرًا فيه، يقبله أناس ولا يقبله آخرون..
يجب تقرير هذا عند تقدير خالد، لأنه الحق الذى لا يعلو على ميزانه ميزان فى ترجيح الرجال والأعمال.
ولأن الرجل الذى يخشى على قدره من تقرير أخطائه، رجل لا يستحق أن يكتب له تاريخ، إذ معنى الخشية عليه من أخطائه أنه فقير فى الحسنات والعظائم، وأنه من الفقر فى هذا الجانب بحيث تعصف الأخطاء بعظائمه وحسناته، ولم يكن خالد بن الوليد كذلك، بل كانت له فى ميزات العظمة والعبقرية كفة راجحة، ولم يكد يرحل عن البطاح حتى اتصلت له حلقات من كبار الأعمال توزع على عشرة رجال، ويجد كل منهم فى نصيبه كفايته من الفضل والرجحان.