رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبناء

المنسيون على الطريق.. حكايات المشردين عن الزمن والأمنيات (صور)

جريدة الدستور

ليس كل مشرد فقير وجاهل.. لولا أن الله أراد أن تكون لنا أسرة كريمة رحيمة، لكان من الممكن أن تدعونا الحياة للعيش معهم بلا مأوى.

في هذه الأيام الخاصة، ونحن على أعتاب عامٍ جديد، تكثر الاحتفالات بالكريسماس، فى كل مكان لتوديع عام واستقبال آخر. فترى الفنادق والنوادي والمراكز التجارية مزينة بأبهى الصور والأضواء الملونة والموسيقى المبهجة التى تجذب اعدادًا كبيرة لمشاركة الاحتفال مع بعضهم البعض.

ولكن في هذا التقرير اختارت «الدستور» أن تأخذكم هناك على جانب آخر من الحياة.. بعيدًا عن ضجيج العالم وصخبه.. حيث أُناس جعلتهم الحياة لا يرون ربيعها الوردي أو شروق شمسها الدافئ، فقط خريفها المؤلم.

دار الفريد للرعاية الاجتماعية، بيتٌ في منطقة بسيطة، منشية البكارى، بالجيزة، صار مأوى لـ34 مشردًا يرعاهم الدار، التابع لوزارة التضامن الاجتماعي، واللجنة المجتمعية المسئولة عن رعاية المشردين، بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية. الأغلبية العظمى من النزلاء كبار السن، 5 منهم فقط شباب، أغلب النزلاء مصابين، منهم من تم بترت رجله، ومن يعانى ثقل السمع أو فقدان النظر، أو صم وبكم، أو فاقد الإدراك، أو مريضًا إلى الحد الذى لا يجعله قادرًا على الحركة، وبالرغم من ذلك لم تمنعهم ظروفهم القاسية من الشعور بالأمل، والتمسك بالله الذى صارت ألسنتهم لا تناجى غيره طوال الوقت.


فى تمام الساعة الحادية عشر صباحًا، وصلنا، إلى الدار الذى كان على أتم الاستعداد لبدء الاحتفال بالكريسماس والعام الجديد، وهو مزين من الداخل بشجر الكريسماس، والبلالين الملونة.

وتضمنت فعاليات الحفل الذى استمر حتى الساعة الثالثة والنصف عصرًا، فقرة للرقص على الأغاني تشارك فيها جميع النزلاء الذى تم حمل بعضهم إلى الصالة الرئيسية المخصصة للتجمعات فى الدور الأرضى. ثم فقرة للألعاب وفقرة لتوزيع الهدايا على يد بابا نويل، الذى تقمص شخصيته مشرف الدار، واختتمت فعاليات الحفل بوجبة جماعية للغذاء، احتوت على "سمك فيليه مقلي وأرز بالخلطة وسلطة"، وعلى مدار الحفل كان يتم توزيع الفواكه والفشار والمشروبات عليهم.

اقتربت «الدستور» من النزلاء لتتحدث معهم وتكتشف مكنونات كلًا منهم وما تخفيه وجوههم ذات المشاعر المتضاربة.
• أمنيات العام الجديد فى قلوب المشردين:

فى أحد أركان الصالة كان يجلس، مسنًا كفيفًا، يدعى عم عوض، يرتدى جلبابًا ويمسك بيده عصا، وتظهر فى ملامحه علامات الحزن والأسى.

"بتمنى لكل الناس الخير والسعادة".. هكذا أجاب عم عوض، حينما سألناه عن أمنيته للعام الجديد.

وعن ما إذا كان مرتاحًا في الدار، قال: "نعم، هنا لا كذب، هنا لا نعرف إلا الصراحة، وكلنا 'كويسين' مع بعض".

واستطرد: "أنا مواليد 1942، وكنت أعمل فى صناعة الزبدة، وكان لى ابن، ولكنه توكل على الله (توفى)"، ولم يقل عم عوض أكثر من ذلك ولا أحد يعلم من أين أتى ولا كيف صارت به الأيام حتى وصل إلى المكان الذي وجدوه به فى الشارع.

وبجوار عم عوض، كان يجلس عم علم الذي يبلغ من العمر 50 عامًا. بصوتٍ متألم ومتلجلج، أصر على أن يروى قصته، ولكن لم يكن كلامه موزونًا، وكانت عيناه تغلبهما الدموع كلما جاءت سيرة زوجته وأولاده الخمسة.
"أنا نفسى أعيش وبس".. هكذا قال عم محمد المصرى، رجلًا تجاوز الثمانين من العمر، والذي يحتضنه الدار منذ 5 أعوام، ولم يقل إلا هذه الكلمات بوجهًا ضاحك، مبتهجًا بالاحتفال كطفل صغير، وسرعان ما وقف وبادر الشباب ليسندوه حتى وصل إلى منتصف الصالة ليرقص على نغمات موسيقى الكريسماس.

"نفسى ربنا يشفينى".. قال هذه الكلمات عم عصام، صاحب العينيّن الخضراوتين، التى تملأهما الدموع، وهو يشير إلى ذراعه اليمنى ورجله اليمنى، اللذين لا يستطيع تحريكهما نتيجة إصابته بجلطة منذ عشر سنوات.

قال: "مكثت في الشارع، على طريق السويس، ما يقرب من 8 سنوات، وكان يتفقدني كل يوم رجلٌ مسيحي يدعى، منير، ويعطينى وجبة، حتى اصطحبنى منذ أيام قليلة للدار".
وعن هويته، كشف عم عصام أنه كان يعمل مدرسًا للغة العربية، وكان متزوجًا وله أربع بنات، ثلاثة منهن طبيبات.

وعن ما إذا كانوا يعلمون بحاله، قال: "كانوا يعلمون أننى فى الشارع وتركوني"، واستكمل وهو منهمر في البكاء، "ولكننى مسامحهم وكل ما أتمناه أن أعود إليهم يومًا".

وعن السؤال عن أكثر ما أسعده فى الدار، قال "الحمام"، فى الشارع لم أكن أجد حمامًا لأدخله، وهنا أفضل كثيرًا من الشارع.

"صابر وعمري أيامه تجري، وناسي روحي.. اللوم رضيته، واللي جنيته سهدي وجروحي... شبابي الغالي ضيعته"، بهذه الكلمات غنى، عم نصر، ثقيل السمع، والذى يبلغ من العمر 74 عامًا، والذى ظل يغنى طوال الحفل دون توقف عن الغناء.

وعن قصته قال: "خليها على الله، بيتى اتخرب، كنت أسكن في المدافن، في الأقصر، حتى تم إزالتها وصرت في الشارع، والحمدلله".

"نفسى أزور سيدي مارمينا".. كانت تلك الأمنية الوحيدة لعم النصر، التى قالها بوجهه البشوش وعينيه الدامعتين.
بينما روى عم عماد عزت، الذى يبلغ من العمر 60 عامًا قصته العجيبة قائلًا: تعرضت لحادث، حيث صدمني أتوبيس الهيئة العامة أثناء عبوري الطريق، ودخلت المستشفى، وظللت فى غيبوبة لمدة طويلة، وحينما خرجت وذهبت إلى الشقة التي كنّا نستأجرها في منشية الجبل الأصفر، وجدت زوجتي وابني وابنتي 'عزلوا'، ولا أحد يعلم إلى أين ذهب".

وأضاف: "ولأننى ليس لي مأوى، مكثت في ميدان رمسيس، أبيع المناديل لمدة شهر، حتى تم اصطحابي لدار الفريد العام الماضى.

أما عم كرم الرجل الثمانيني، فظلت تلازمه طوال الوقت لزمة "يا رب يا ربنا"، ولم يكن يتفوّه بغيرها، وكان يرتدى معطف بغطاء للرأس، كان يضعه على رأسه ويغطى به عينيه، وكأنه لا يرد أن يرى أحد أو يتكلم مع أحد، فقط يناجي الله وحده.

عم بولس، نزيلٌ أخر، تجاوز من العمر الـ 60 عام، كان يجلس على كرسى ويصعب عليه الحركة، قال: "بترَت قدماي وركبت بدلًا منهم قدمين صناعيتين". لا يتذكر إلا أنه كان مشردًا ويمكث في حديقة عامة وكان القس يوسف فهمي، يتفقده ثم اصطحبه للدار.

"يحميكِ الله يارب".. كانت تلك دعوة رجلاٍ بالكاد تجاوز الـ50 من عمره، بلا ساقيّن والعجيب أنه كان أكثر النزلاء تفاعلًا مع الموسيقى، وظل يرقص طوال الحفل واقفًا على ركبتيه، وهو متوازنًا لأبعد حد، ومحركًا يديه بحركات راقصة تجذب الانتباه، وحينما سألناه عن أمنياته للعام الجديد، رد: "أمشي لبلجيكا".
• المسئولين عن الدار: نخدم الإنسان لكونه إنسان

قال القس يوسف فهمي، سكرتير اللجنة المجمعية لرعاية المشردين، والمسجونين وأسرهم: دار الفريد هو دار لرعاية المشردين، وحصل على قرار وزاري بإقامة مؤسسة "الفريد" وأكثر من دار لرعاية المشردين، في عام 2017.

وأضاف "فهمي" في لـ«الدستور»: «هناك من نستطيع أن نأخذها للدور ونقوم بخدمتهم، والآخرين نخدمهم في الشارع ونوفر لهم الأكل والشرب والغطاء والدواء إن كان فى حالة مرضية، لافتًا نخدم المشردين جميعهم دون معرفة ديانة أحدهم مسيحيين ومسلمين على حد سواء».
وقالت تاسونى أكسانى المكرسة لخدمة المشردين، لـ«الدستور»، إن الدار نموذج فريد لضمه نزلاء وعاملين مسيحيين ومسلمين على حد سواء، مضيفة: «أنا مسئولة عن فريق التمريض، وأحضر هنا بشكل دائم وأتابع الفريق تليفونيًا على مدار الساعة، بالإضافة، يوجد 6 شباب مقيمين هنا في الدار على نبطشيتين، للإشراف على الأدوار الثلاثة بالمبنى التى تضم العنابر الخاصة بالنزلاء».

واصطحبت تاسوني أكساني، «الدستور» في جولة داخل المبنى، الذي يضم في الإجمالى 4 أدوار، فى الدور الأرضى توجد القاعة الرئيسية للتجمعات والاحتفالات بالإضافة إلى المطبخ الذي يتم فيه إعداد الطعام للنزلاء، ودورة مياه.

وصعدنا إلى أعلى لنرى الأدوار الثلاثة ويضم كلٌ منهم عنبرين، يوجد من سريرين إلى 5 أسِرَّ فى كل عنبر، كما توجد غرفة خاصة لعزل الحالات الحرجة، أن كانت لاحتياجها متابعة خاصة بعد خروجها من المستشفى وتركيب المحاليل لها أو أن كانت مصابة بمرض معدى.
كما يوجد دورتي مياه مجهزتين بسخانات للاستحمام اليومي، وصالة بها تليفزيون، ولاحظنا فرش أرضية الصالة بمفرش مبطن بالفوم لحماية النزلاء من الإصابة فى حالة سقوطهم على الأرض فجأة أو فقدانهم لتوازنهم. وتوجد كاميرات فى كل مكان بالدور، لمتابعة جميع النزلاء بشكل دورى، بجانب الشباب الذين يلازمون النزلاء طوال النهار والليل فيقومون فى تمام الساعة الـ8 صباحًا، فى كل يوم، بتحميم النزلاء جميعًا، وكل يومين يتم حلاقة شعر الذقن لهم، بالإضافة إلى قص أظافرهم بشكل دورى وإلباسهم ملابس نظيفة يوميًا.

وعن السؤال عن فكرة الاحتفال بالكريسماس، أجابت تاسونى أكسانى: "كل النزلاء هنا حالتهم النفسية ليست جيدة، ففكرنا نحن الشباب الذين نخدم فى الدار، أن نصنع لهم يومًا مبهجًا لنرفِّه عنهم، ونجمعهم فى القاعة الرئيسية فى الدور الأرضى بالمبنى لنحتفل جميعًا سويًا، فقمنا بترتيب فقرات مختلفة لرسم إبتسامة على وجوههم وقمنا بتحضير هدايا لتوزيعها عليهم».

وقال الأخصائي الإكلينيكي، مينا عوض، لـ«الدستور»، شعارنا في الدار أن نخدم الإنسان لكونه إنسانا، مسلم ومسيحي على حد سواء، مضيفا: «أهم ما يشغلنا هو مساعدة نزلاء الدار على أمرين، التكيف النفسىّ مع الأمر الواقع، والاندماج بعضهم مع بعض». مشيرًا إلى أنه يقوم بعقد جلسات أرشاد معهم، بالإضافة إلى تحضير الحفلات والتجمعات بما فيها من فقرات ترفيهية.

وأضاف: «نهتم للغاية بالنظافة الشخصية للنزلاء حيث نحميهم بشكل يومى، وأيضًا نهتم برعايتهم طبيًا بمتابعة حالاتهم الصحية».

وعن النزلاء الفاقدين للوعي.. أشار الأخصائي الإكلينيكي، إلى أنه يوجد بعض الحالات الفاقدة للوعى أما بسبب ظروف صحية أو بسبب ما تعرضه إليه من اعتداءات خلال تواجدهم فى الشارع، بل ويوجد من يرفض الكلام البتة ويصر على الصمت، وفي كل الأحوال نحن نعتنى بالجميع ونبذل قصارى جهدنا لأن يشعروا بالراحة والأمان في الدار.

وقالت الممرضة رحاب سيد: «أنا خريجة تمريض القصر العينى عام 1994، وأعمل منذ 5 أشهر فى الدار كممرضة، من ضمن طاقم التمريض الذي يعتني بالنزلاء، حيث نقسم أنفسنا وأنا وزميلى فادى على نبطشيات لمتابعة النزلاء على مدار الساعة».
وأضافت: «نقيس النبض وضغط الدم ودرجة الحرارة ونعطيهم الأدوية اللازمة بشكل يومى للنزلاء، ونكون مسؤولين على القيام بالخياطة في حالة سقوط أحدهم، خاصة المصابين بنوبات الصرع».

وأشارت إلى أنه هناك أطباء يأتون إلى الدار لعرض النزلاء عليهم وفى كثير من الأحيان يتم اصطحاب النزيل إلى مستشفى متخصص لمتابعة حالته، أن كانت مستشفى تابعة للكنيسة أو للجمعية الشرعية، فنحن هنا لا نفرق بين مسلم ومسيحي، لا فيما بين النزلاء ولا العاملين أو الخدام أو المؤسسات التى نتعامل معها.

وأشادت "سيد" باهتمام ورعاية الدار بكل نزيل من كافة الأوجه.

وتوجهت «الدستور» لمطبخ الدار، وكانت إيمان تعد السمك الفيليه المقلي، بمناسبة الاحتفال، برفقة زميلتيّها، حيث كانت الواحدة تضع السمك المتبل فى الدقيق، وتناوله لإيمان لتضعه فى الزيت، بينما الأخرى تقوم بطهي الأرز بالخلطة للنزلاء.

وقالت إيمان لـ«الدستور»: «أنا أعمل في الدار منذ عامين، ونحن نقوم بإعداد الطعام بشكل يومى للنزلاء وفق برنامج غذائي صحي متنوع، يتضمن بروتين يومي، لحوم ودجاج وأسماك، طوال الأسبوع وأحيانًا نعد لهم وجبة كشري مرة في الأسبوع».

وأضافت: «ونعدد الحلويات كالأرز باللبن أو الشعرية باللبن أو المهلبية أو الكيكة، من ثلاث لأربع مرات أسبوعيًا، وباقي أيام الأسبوع نقدم لهم الفواكه، بالإضافة إلى إعداد المشروبات المختلفة كالشاب باللبن والعصائر وغيرها».

وتابعت: «أكثر ما نهتم به هو النظافة فى إعداد الطعام وتلبية طلبات النزلاء فمثلًا طلب منها أحدهم إعداد وجبة 'السمين'، الشعبية، وكل مايطلبونه كأمنيات للطعام نعده لهم».
وقال مشرف الدار، إسحق بطرس توفيق لـ«الدستور»: «يوجد في الدار 34 نزيلا، منهم 14 غير معلوم هوياتهم، والعشرون الآخرون، تحققنا من هويتهم واستخرجنا أوراق رسمية لإثبات هويتهم، وحاولنا التواصل مع أسرهم، فرفضوهم، فمثلًا عم عصام، تحققنا من هويته من خلال بطاقة الرقم القومى الخاصة به، أنه مدرس لغة عربية في السويس، وتواصلنا مع زوجته وبناته الأطباء، الذين رفضوا استلامه، وكان القس يوسف وجده في الشارع على طريق السويس، ومرت عليه السنوات وهو غير قادر على الحركة، نتيجة إصابته بجلطة في يده ورجله، فأصطحبه للدار.

وأضاف: «يوجد أيضًا عبدالله، الشاب العشريني، غير مدرك لكل ما حوله، واستطعنا الوصول إلى رقم هاتف والدته، وطلبنا منها أن تعطينا أى أوراق رسمية تثبت هويته، وقالت لنا لا تتصلوا بنا مرة أخرى، وأغلقت الهاتف في وجهنا».