رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: أصوات سلفية من «رحم المأساة»

محمود خليل
محمود خليل

سيد قطب هو الأب الروحى للسلفية الجهادية، تلك حقيقة تاريخية وواقعية، فقد تبنى نظرية «أطر المجتمع على تبنى المنهج السلفى للجيل الأول من صحابة النبى، صلى الله عليه وسلم». والأطر هنا بمعنى الإجبار أو القهر. لم يمتلك «قطب» الحذر المنهجى الكافى وهو يستخدم كتب التراث التى أرّخت لتاريخ الجيل القرآنى الفريد فى رسم الصورة المثالية التى قدمها له، وتملكه قدرًا كبيرًا من الاندفاع وهو يختار الجهاد طريقًا لإحداث التحول المطلوب فى المجتمع الذى نعته بالجهل والجاهلية.
قدم سيد قطب نموذجًا فريدًا للمفكر المتطرف الذى يجنح إلى الطريق الأشد من أجل نشر فكرته فى استعادة الوجه الناصع للسلفية. ومن هنا جاء صدامه مع السلطة الناصرية عام ١٩٦٥، وخطته الساذجة فى مواجهتها من خلال تنظيم يضم العشرات، وهى الخطة التى تمركزت محاورها فى تخريب المنشآت العامة كوسيلة لشل حركة السلطة. وقد فشلت الخطة كما تعلم، وكان من الطبيعى أن تفشل، وتم القبض على أعضاء التنظيم بمن فيهم سيد قطب، وبدت الاعترافات التى أدلى بها وأعضاء تنظيمه أشبه بسيناريو مسلسل أو فيلم عربى، تحركه المخيلة الأدبية أكثر مما تسوقه النظرة الواقعية إلى الذات والآخر.
لم تمت فكرة استعادة «دولة الجيل القرآنى الفريد» ولا الطريق الذى اختاره سيد قطب لتحقيق هذا الهدف «الجهاد» بإعدامه عام ١٩٦٦، فقد تلقفها عدد من الشباب الذين تأثروا بالنهاية الدرامية لصاحب الفكرة والطريق، وتماثلت ظروف حياتهم مع الظروف التى مر بها سيد قطب من إحساس بالتيه والقهر والمرارة من التهميش الاجتماعى والاقتصادى والإنسانى. كانت الظروف العامة بعد العام ١٩٦٦ مهيأة لتلقى فكرة «السلفية الجهادية» كل التهيؤ. ففى العام التالى «١٩٦٧» نشبت حرب يونيو، ونالت فيها مصر هزيمة موجعة زلزلت كيان المصريين وأدارت رءوسهم، وظهر من بين الأجيال القديمة من يؤكد أن الهزيمة وقعت بسبب بعد المجتمع المصرى عن الإسلام والاتكال على البشر والثقة فيهم ونسيان التوكل على الله والاعتماد عليه، ووجد هذا التفسير قبولًا لدى نسبة لا بأس بها من جيل الشباب الذين عاصروا هذه الأحداث. ومع وفاة عبدالناصر «سبتمبر ١٩٧٠» وتولى الرئيس السادات الحكم، أخذت البوصلة السياسية فى التحول من الاتجاه نحو السوفيت إلى تولية وجه الدولة شطر الولايات المتحدة الأمريكية، فقام الرئيس بطرد الخبراء العسكريين السوفيت من مصر، وشاع خطاب سياسى يردد «الالتصاق بالسوفيت أدى إلى انتشار الأفكار الإلحادية والبُعد عن الدين».
فى سياق هذه الأحداث والتحولات ظهر جيل جديد من شباب الإسلاميين توالدت أفكاره من رحم مأساة ١٩٦٧، وتغذت على التوجه السلفى الغالب على تفكير المؤسسة الدينية فى مصر، الذى لم تتخل عنه منذ العصر المملوكى وكان يجد دعمًا معاصرًا من الأفكار الوهابية التى كانت تتدفق بغزارة على مصر من المملكة العربية السعودية. دخلت مصر عقد السبعينيات من القرن الماضى وفى جعبتها جيل جديد من الشباب السلفيين الهائمين فى جامعات مصر بلا بوصلة. فقد كانت الأجيال القديمة من الإخوان فى السجون، ومن بقى منهم خارجها آثر الابتعاد أو العمل السرى تحت الأرض، وبالنسبة للسلطة فقد تركت هؤلاء الشباب يهيمون كما يشاءون ما داموا يوجون سهامهم إلى المجموعات الشبابية التى توجه سهامها لنظام الحكم «اليساريين والناصريين». اعتمد شباب الجماعات على تنظيم أنفسهم بأنفسهم، وأخذوا ينشطون داخل الجامعات بإقامة الندوات والمعسكرات ونشر صحف الحائط وطباعة الكتب التى تحمل «الفكر السلفى»، متحدين التيار العام الذى ساد الحركة الطلابية فى الستينيات، الذى تشكل من التنظيمات اليسارية والناصرية والقومية. وقد تبنى «السادات» موقفًا مناوئًا من هذا القطاع من الشباب الذين ما فتئوا يذكّرون الرئيس باستحقاق الحرب وتحرير الأرض، ويدافعون عن التراث الناصرى، ويعلقون باستهجان على بعض الخطوات التى اتخذها، خصوصًا الخطوات المتعلقة بالتوجه نحو الغرب، وإعادة النظر فى العلاقة بالسوفيت. وقد دفع هذا التحدى الرئيس السادات إلى إفساح المجال للجماعات الدينية لتعمل داخل الجامعة، ودعم هذا التوجه ببدء رحلة الإفراج عن مساجين الإخوان عام ١٩٧١.
كانت الجماعة الدينية بكلية الطب جامعة القاهرة من أوائل الجماعات التى نشأت وسعت إلى دفع الشباب الجامعيين إلى الاصطفاف تحت مظلة التيار الدينى والتصدى لليساريين والناصريين، وبدأ نشاطها- كما يقرر «علاء بكر» فى كتابه «الصحوة الإسلامية فى السبعينيات»- ما بين عامى ١٩٧١ و١٩٧٢. وبدأت جماعات دينية أخرى فى الظهور والعمل داخل كليات الجامعة الأخرى، ونجحت هذه الجماعات فى السيطرة على اتحاد الطلاب. وبالتوازى مع هذا التحرك حدث تحرك شبيه داخل جامعة الإسكندرية، وتكونت جماعة دينية شرعت فى تنظيم الندوات والمؤتمرات وإقامة المعارض وتقديم الخدمات للطلاب، فحققت شعبية لا بأس بها على المستويين العام والجامعى. ويقرر «علاء بكر» أن غالبية هؤلاء الشباب أخذوا العلم عن طريق مساجد أنصار السنة باتجاهها السلفى، ومنها استقوا فكرهم ونقلوه لغيرهم، كما كان المنهج السلفى وكتبه هو السائد داخل معسكرات الشباب الإسلاميين وقتها، وزاد من هذا الأمر رحلات العمرة التى نُظمت للشباب الجامعيين خلال الإجازات إلى المملكة العربية السعودية، وعاد الكثيرون منهم بكتب ورسائل دينية تحمل الفكر السلفى فراجت بين الشباب وذاعت أوائل السبعينيات.
كان «السادات» اللاعب الأهم فى دعم التيار السلفى أوائل السبعينيات كجزء من الدعم الذى أولاه للتيار الإسلامى، ومثّلت المملكة العربية السعودية الرافد الأبرز لتزويده بالأفكار والكتابات التى شكلت خطابه وفهمه للدين والمحتوى الدعوى الذى خاطب به الشباب. ولا يخفى عليك أن المملكة شكّلت خلال فترة الستينيات ملاذًا آمنًا للإخوان الهاربين من ملاحقة السلطة الناصرية، وتمكن بعضهم من تكوين ثروات لا بأس بها من خلال العمل هناك، كما أن التوجه السعودى حينذاك كان يميل بشكل كامل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويلعب دورًا مهمًا لصالحها فى حماية المنطقة العربية من تغلغل النفوذ السوفيتى، وكانت ذريعة المملكة فى ذلك تتمثل فى «محاربة الإلحاد». التقى «السادات» فكريًا ومصالحيًا مع التوجه السعودى وتبناه، فلعب هذان الطرفان الدور الأهم فى الميلاد الجديد لكل من الفكرتين السلفية والإخوانية، وتأسيس خطاب جديد قادر على مناهضة الخطاب الناصرى الموروث. ومع توسع عدد المنتسبين إلى الجماعات الدينية الجديدة داخل الجامعات برز دور جماعة الإخوان كتنظيم قادر على جمع هذا الشتات تحت مظلة عمل واحدة، وأصبح الإفراج عن قياداتهم ضرورة سياسية بالنسبة للسلطة الساداتية فكان ما كان، وخرج الإخوان من السجون ليُفاجَأوا بهذا الجيل الجديد الذى ظهر فى معزل عنهم، وسال لعابهم لابتلاعه ليكوّنوا منه قاعدة انطلاق جديدة للجماعة التى تمزقت فى الستينيات كل ممزق. وعرفت قيادات الجماعة الخبيرة كيف يغمضون عيونهم عن بعض الخلافات الفكرية التى نشأت بين الجماعة والشباب الجامعيين السلفيين، واعتمدوا على سياسة النفس الطويل فى تذويب الخلافات، ولم ينسوا فى لحظة أن جماعتهم هى الأخرى تتشارك مع السلفيين فى الدفاع عن الفكرة، وتتقاسم مع سيد قطب الاعتقاد فى «الجهاد» كطريق أمثل لترجمة الفكرة السلفية إلى واقع، وترى فى نفسها نفس ما رآه سيد قطب من أن «الإخوان» هى الطليعة المؤمنة التى ستُحيى من جديد «دولة الجيل القرآنى الفريد».