رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكاية سمعان الدباغ مع "المعز" كما رواها ستانلي لينبول

جريدة الدستور


حينما نتحدث عن هوية مصرية مشتركة متوارثة لملايين المصريين بعيدا عن التمييز الديني لا بد أن نذكر الموالد والتبرك بالأضرحة والأولياء٬ عندما نتحدث عن مظاهر احتفالية بهذه الموالد سنشم رائحة "الفول النابت" كأكلة مشتركة في موالد المسلمين والمسيحيين على السواء وكما يحمل لنا زائر السيد البدوي "الحمص" لا ينساه زائر مولد السيدة العذراء في جبل الطير بسمالوط في المنيا والذي يؤمه من الزوار المسلمين أكثر من الزوار المسيحيين.

وكما أن لكل نبي يصلي ويسلم عليه فكذلك لكل ولي وقديس يتبرك به ويرجو شفاعته وكما ينتشر الأولياء الذين يتبرك بهم المسلمون لقضاء حوائجهم أو التشفع لدي الله لرفع بلاء أو مرض وتفريج غمة فكذلك الحال مع شركاء الأرض الماء والكلأ المسيحيين لهم أيضا قديسين يشدون الرحال طلبا لزيارتهم والتبرك بهم ورجاء شفاعتهم وكراماتهم من هؤلاء القديس"سمعان الدباغ" والذي كني أيضا بالخراز والإسكافي حيث مهنته التي أشتغل بها قبل أن تظهر معجزته. معجزة الخراز قصة بديهية لدي المسيحيين لكنها ليست كذلك بالنسبة للمسلمين رغم أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بتاريخهم الوسيط تحديدا فترة الحكم الفاطمي لمصر وتغيير مذهبها لأول وآخر مرة للمذهب الشيعي.

يشير المستشرق الرحالة الإنجليزي"ستانلي لينبول" إلى أن هذا التحول كان أكثر من إبدال مذهب بآخر ومما لا شك فيه أنه بفضل التسامح السياسي للمعز لدين الله الفاطمي وافق الناس على النظام الشيعي دون مغالاة أو تعقب للمذهب القديم٬ وإن كان اسم الخليفة العباسي قد حذف في الحال من صلوات يوم الجمعة في مسجد عمرو بن العاص القديم٬ كما أن ملابس العباسيين السوداء قد حرم لبسها وكان الواعظ يرتدي ملابس ناصعة البياض ويتلو خطبة للإمام المعز أمير المؤمنين ويطلب له ولأجداده على بن أبي طالب وفاطمة وجميع أفراد الأسرة المقدسة البركة والنعمة.

كان الأقباط والمسيحيين هم أكثر من استفاد من حالة التسامح الدينية هذه٬ يقول لينبول: كان للخليفة العزيز بن المعز والذي حكم من عام 970 إلي 996 زوجة مسيحية وكان اثنان من أخواتها بطاركة ملكانيين٬ كما أن كلا من البطريرك اليعقوبي إفريم وسفيروس أسقف أشمونين كانا من خيرة أصدقائه٬ فقد كان الأسقف يشجع على المجيء إلي القصر والتحدث في اللاهوت مع رئيس القضاة٬ كما أن البطريرك قد سمح له بإصلاح كنيسة القديس مركاريوس٬ التي كانت توجد خارج مصر.

ويحدثنا أحد الكتاب الأرمنيين بأنه كانت توجد كنيسة مكرسة لهذا القديس غير أنها كانت متهدمة وتستعمل كمخزن لقصب السكر٬ وبعد ذلك في عهد هذا البطريرك بدأت الأسئلة تدور حول قانون الإيمان عند المسيحيين٬ وهل كانوا يعتقدون في الكذب أم الإيمان٬ وهنا اجتمع المسيحيون وذهبوا إلي الجبل٬ وكان المسلمون واليهود قد خرجوا في نفس الوقت لغرض آخر. وقد تقدم كثير من زعماء الإسلام وأخذوا يصلون وينادون "الله أكبر" ويتضرعون إلي الله طالبين معونته٬ غير أن أية علامة لم تظهر لهم٬ وبعد ذلك تبعهم اليهود إلا أن حظهم لم يكن بأحسن من حظ المسلمين٬ وهنا تقدم البطريرك يتبع ه"الدباغ" الذي كان الله قد حقق له معجزة عجيبة٬ ومن ورائهما جميع المؤمنين٬ ثم أخذا يصليان إلى الله العظيم ويحرقون البخور٬ ويصيحون ثلاث مرات قائلين "كيرياليسون" وما أن أتما ذلك حتى كان الله قد أتى بالعجائب. ذلك أن الجبل كان قد تحرك٬ ونقصد بالجبل ذلك الجزء من جبل المقطم القريب من تل الكبش بين القاهرة ومصر.
وقد حدثت هذه المعجزة خلال إيمان الدباغ الذي كان قد اقتلع عينه في حضرة العزيز وكبار رجال حكومته وقضاة الإسلام. وحينما شاهد العزيز هذه المعجزة العظيمة قال: كفى أيها البطريرك فنحن نعترف بما فعل الله لك" وبعد ذلك أضاف: اطلب مني ما تشاء وسوف أحققه لك ومهما يكن من شيئ٬ فإن البطريرك رفض هذا الطلب شاكرا٬ غير أن العزيز ألح عليه في أن يطلب شيئا٬ وهنا طلب منه البطريرك في أن يأذن له بإصلاح كنيسة قديمة كان قد لحقها الخراب. وبالفعل حقق له العزيز ما أراد وأمر بأن تصلح الكنيسة٬ ويقال أن تلك هي كنيسة القديس مركيوس٬ ويلاحظ أن البطريرك لم يقبل المال الذي منحه إياه العزيز٬ بل أصلح الكنيسة من ماله الخاص.

وقد تم العمل تحت حراسة قوات الخليفة التي كانت تحمي المسيحيين من "عامة المسلمين" الذين لم يطيقوا التساهل مع هؤلاء"المشركين"٬ ولقد كان أحد وزراء العزيز يهوديا في أصله٬ وكان ابن نسطوروس مسيحيا. وبطبيعة الحال كان المسلمون لا يظهرون ارتياحهم لمثل هذا التسامح الديني مما دعاهم إلي هجاء الخليفة. أما النساء فكن دائما في صف المسيحيين٬ وكانت لهن طريقتهن الخاصة كما هي العادة. وحتي في أيام الحاكم العزيزبن المعز والذي كان دون الخلفاء جميعا في معاملته للأقباط جاء وقت كان يضطهدهم فيه إضطهادا مريرا٬ كانت الوظائف الكبري لا تزال في أيدي المسيحيين. وعلي الرغم من أنه حدث كثير من الإغتصاب والنهب أيام الوزير"اليازوري"في منتصف القرن الحادي عشر٬ إلا أنه يبدو أن ذلك كان نتيجة عسر مالي وليس نتيجة اضطهاد ديني. وليس من شك في أن التأثير العظيم الذي أحدثه الوزراء الأرمنيون في النصف الأخير من ذلك القرن قد تمخض عنه شعور طيب٬ حتى أن الخليفة الحافظ في القرن الثاني عشر كان يتلقي درسين في التاريخ كل أسبوع من البطريرك الأرمني٬ كما أن كثيرا من الخلفاء الذين جاءوا بعده كانوا يزورون الحدائق ذات الظلال الوارفة في أديرة الأقباط٬ حيث كان يستقبلهم الرهبان ويغالون في إكرامهم.