رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عم الشعراء.. «الدستور» تحيى ذكرى ميلاد ووفاة فؤاد حداد

 فؤاد حداد
فؤاد حداد

«أستاذ الأساتذة، ولو كانت هناك أكاديمية لشعر العامية المصرية لكان عميدًا لها».. هكذا وصف الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، صديقه شاعر العامية فؤاد حداد، الذى تحيى «الدستور» الذكرى الـ٩٢ لميلاده والـ٣٤ على وفاته، بلقاءات مع أبنائه الثلاثة «سليم وأمين وحسن» وحفيده أحمد أمين.

ويظل الحديث عن فؤاد حداد «٣٠ أكتوبر ١٩٢٧- ١ نوفمبر ١٩٨٥»، الذى صدر فى حياته ١٧ ديوانًا، وبعد وفاته نُشر ١٦ ديوانًا، لتكون الحصيلة نحو ٣٣ ديوانًا، من أشهرها «المسحراتى»- متجددًا، ومع مرور الزمن تتكشف تباعًا الكثير من أسرار عالمه بين المستويين الإبداعى والشخصى.

تعالوا معًا نقرأ ما يقوله الأبناء عن الأب العظيم.




أمين حداد يكتب: يا أبى.. هديتك التى لم تعطنيها وصلتنى وأسعدتنى

اعتقل لأول مرة حتى ١٩٥٦
نحن ثلاثة إخوة أشقاء.. سليم وأمين وحسن، ندعو دومًا لوالدينا قائلين: «رب ارحمهما كما ربيانا وأحبانا صغارًا وكبارًا». ونحمد الله على نعمة فؤاد حداد الوالد الإنسان المناضل، وشعره الإنسانى العظيم، وزكية إسماعيل الأم الحنون الصابرة ونفخر دائمًا بسيرتهما الطيبة.
أخى الأكبر سليم من مواليد ٢٤ مايو ١٩٥٧. وأنا الأوسط ولدت فى ١٦ سبتمبر ١٩٥٨. واعتقل أبى فى أبريل ١٩٥٩ وأنا ابن سبعة أشهر. وعاد وأنا خمس سنوات وسبعة أشهر.
كتب فؤاد حداد فى أوائل سنة ١٩٨٠ ذاكرًا وقت اعتقاله فى ١٩٥٩:
يا إلهى القادر المعبود باسألك من قلب شاعر سجين رجّع الوالد إلى المولود سِبت بِكرى ولادى لو يذكُر بالدموع تصرخ عيونه السود والصغير عمره سبعة أشهر كان قمر أتقل من العنقود.
وولد أخونا الأصغر حسن فى ١٨ يناير ١٩٦٥ بعد خروج أبى من المعتقل.
تاريخنا الواعى مع أبينا عمره واحد وعشرون عامًا من ١٩٦٤ إلى وفاته فى ١٩٨٥. كان عظيمًا متواضعًا مصهللًا خفيف الظل، يشبه شعره، رائقًا ساحرًا طيبًا مُلهِمًا واضحًا غامضًا.
كان قريبًا يقضى معظم الوقت فى البيت، وبعيدًا يكتب الشعر دون ورقة وقلم وينغمه وهو يزوم ويوقّع الكلام بيده أو بقدميه، يقول الشعر بسلاسة دون تكلف ويحوّل كل الذى حوله إلى قصائد.
والآه لا صنعة ولا مجهود باغنى زى ما باتنفس
تعلم سليم الكلام ودخل المدرسة وتعلمتُ أنا المشى وتكلمتُ وهو بعيد فى معتقلات بعيدة. زرته مع أمى وسليم فى معتقل الواحات سنة ١٩٦٣ فى ذكرى لا أنساها ما حييت.
وكتب أبى أغانى ومواويل توجع القلب فى السجن شوقًا لأسرته وبيته.
يذكر ابنه الذى يكبر ويتعلم الكلام وهو بعيد عنه.
وابنى اللى ما ينقطعش دقيقه عن بالى
نطق بابا وأنا بابا وما سمعتوش
اسمعوا وشاهدوا شاعرًا سُجِن ظلمًا فى عنبر طويل يحاول أن يغمض عينيه ليدخل فى النوم وهو يكلِّم ابنه الصغير البعيد.
قلت تصبح على خير يا ابنى وما عرفتش أنام
واللى فى عنبر ستة قال ستة تمام
هل كان خائفًا أن ينساه ابنه الذى لعب معه وحمله وقبّله وودعه وناداه من أسفل البيت لتطل أمى من الشباك تحمله ويلوحان له ويلوح لهما.
وإن عشت يا ابنى وحاعيش وحلفت بك يا سليم
لو ظلى ينسانى ابنى سليم ما ينسانى
وأنا عينى تفديك بإنسانها يا إنسانى
يا جبين قمر والسنان بكر وقلب سليم
وعيون من المهد لون الشهد أنسانى.
هل كان فؤاد حداد يكتب ذاكرًا أسرته وابنه أم يتكلم بلسان جميع من حوله؟. كلهم آباء وأبناء، وأسرهم بعيدة يشمون روائح أحبابهم فى رسالة أو طرد.
يا طرد كلك عطف ومشاعر وإنسانية وقلب طاهر فكرنى وإن كنت لسه فاكر ريحة حبايبى وفجر عاطر أطل منه على المناور خلّى الخيال الخيال يقرب ألاقى بيتنا قدامى حاضر
بل كتب قصيدة حفظها أصدقاؤه المعتقلون على لسان «طفل مش ناسى أبوه السجين»
أبدًا يابا فى بالى وخيالك فى خيالى ع السرير بارد وخالى جنبى يابا مطرحك
وغنّى أغنية مع أصدقائه المعتقلين فى الواحات الخارجة فى عيد ميلاد ابنه أمين فى بداية الستينيات.. كان عمرى وقتها سنتين أو ثلاث سنوات.
لم أسمع هذه الأغنية إلا من أصدقائه بعد ذلك وأنا شاب.. ولم تنشر فى أعماله الكاملة.
قال لى مطلعها مرة زميل والدى المرحوم حسن المناويشى بعد أن عرفنى بنفسه فى قصر ثقافة مصطفى كامل بالإسكندرية فى التسعينيات وبكيت.
وقال لى أيضًا مطلعها الدكتور قدرى الحفنى رحمه الله.
«الليله دى عيد ميلادى قال لى أمين وأمين كروان
فاتت سنة على يوم ميلادى كبرت صبحت عظيم الشان مهما كبرت صغير أولادى ولا تكبرش على الأحضان بوسة وبوسة وبوسة كمان بوسة شقاوة وبوسة حنان بوسة بعقل وبوسة جنان بوسة عشان الليل ما يطولشى وبوسة عشان الفجر يبان بوسة عشان إن قلت ما أقولشى إلا من القلب الفرحان بوسة بحضن تاخدنى لأمك وسليم اللى والله زمان».
يا فؤاد حداد يا أبى
هديتك التى لم تعطنيها وصلتنى وأسعدتنى وعاشت معى ومع أصدقائك الذين غنوها معك فى صحراء مصر الغربية، فى ليلة منيرة بوجوهكم، وبقمر رأيتموه مقلمًا، خلف قضبان منعت عنكم النور والشجر، والنيل ودلتاه والبيوت يفصلها عنكم ظلام شاسع. أقرأ كلامك وأسمعه من صديقك المرحوم محمد عبدالغفار بصوته الأجش وهو يغنى:
قال الولد رجعوا الوالد إلى الوالدة
دول أربعين ضلع ولا أربعين جلدة.
عاد فؤاد حداد إلى بيته وكنا صبيين لم يقل لنا هذه القصائد، لكنه أسعدنا بقصائد الأمل والرقصات. كان يضطجع على السرير ساندًا رأسه إلى المخدة وشابكًا قدميه موقعًا بهما، وسليم وأنا نجلس على طرفى السرير ونغنى معه:
كان بابا البغبغان وماما المغمغان.
بيحبوا بعض جدًا على نار من غير دخان
م الفرحة مسخسخان م النعمة متختخان
أو نرقص معه فى فسحتنا الضيقة وهو يغنى مع أصدقائه:
كان عندى طاقية شقية شقية من شقاوتها بقت طرطور.
ولما ولد حسن فى يناير رمضان كان أبى يكتب المسحراتى الأول فأهداه موالًا:
قالوا السبوع يا حسن أنا قلت برجالات
من حُسن ابنى حسن أنا عقلى برجالات
الله كرمنى اتولد لى ابن فى رمضان
أنا قلت فى رمضان الوِلْد برجالات.
رآه يكبر قدامه، نطق أولى كلماته معه، وخطا أولى خطواته أمام عينيه، وأدخله المدرسة بنفسه. كان يغنى معه ويلعب معه ويلتقط جملًا وكلمات قالها حسن ويرددها كأنها شعر:
أصغر ولادى حسن أبو علوة بيغنى غنوة مش بس حلوه جميلة جدًا والديك بيدن والفجر شق على دق قلبى عديت حبايبى من بر غربى لبر شرق.
وكتب بعد ذلك قصائد لكل من حوله ولأولاده، فكتب لسليم قصيدة بعنوان «الشاعر فؤادى»
فيه ليل قلبه سليم يبقى سمعه سليم يبقى القمح السليم فى نورج عند وادى عند الشاعر فؤادى أولاد الخير ولادى عند الفجر المنادى لصراط مستقيم وباحبّك يا سليم واحفظ لى الغنوة ديّه عند الصيف القديم وأنا فاكهة مستويّة بارمى القشر الأليم.
وكان من نصيبى قصيدة فى وسطها يقول:
«وبيعدل قلبى لو مال»
ففرحت بأنى أعدل قلبه حين يميل أو يحزن.
وفى آخرها يقول:
وأنا ماشى تحت الأحمال ودا نازل يلعب فى الطين وبقلبى فى قلب الزنازين ودا وارث من رأس المال دكّانة رفّا الأسمال ودا شارب يوليه وخمسين وبيزرع أرض فى كوم بقطر وفى كوم السيّد تحسين
...
والدمعة اللى فى عينه بتقطر
وتجيب لى من الهند الصين
...
بيشق شوارع ياسمين وأنا أصلى رفيّع وسمين ولا أرفع من ابنى أمين ولا أسمن من ابنى أمين وليحيا جنس العمال وليسقط جنس الظالمين.
نعم يا أبى ما زلت أزرع أرضًا فى كوم بقطر. و«كوم بقطر» هو التعريب الفؤاد حدادى لكلمة «كمبيوتر».
نعم يا أبى يحيا العمال ويسقط الظالمون الذين سجنوكم وأبعدوكم عن أبنائكم دون ذنب.


سليم : آخر كلمات كتبها «مات اللى كان ناوى يموت ولا يقطع دابر أمل المساكين فى الأكابر»

«أبويا بالنسبة لى مثل أعلى فى كل حاجة».. هكذا بدأ الشاعر سليم حداد حديثه عن والده الذى يعتبره مثله الأعلى كأب، وإنسان، وصاحب مبدأ يدافع عنه، ومثل أعلى فى حبه وإخلاصه لزوجته، وحب بلاده والتضحية من أجلها، وحبه لولده ووالدته.
لم يتدخل فؤاد حداد فى اختيار أبنائه مجالات عملهم أو دراستهم، فكان كل منهم يختار ما يريده دون تدخل.
خرج فؤاد حداد من اعتقاله الثانى، وكان ابنه «سليم» فى الصف الأول الابتدائى، لم يستمع يومًا عن حديث والده بخصوص فترات اعتقاله، فكل ما أراد التعبير عنه كتبه فى دواوينه.
كان فؤاد حداد واضحًا إلى أقصى درجة، وظهر ذلك جليًا من خلال دواوينه الشعرية، فقد تحدث عن أصدقائه وألف قصائد بعينها لعدد منهم كعبدالمنعم السعودى الذى لم يفارقه خلال الفترة الأخيرة من حياته، ورثا حسن فؤاد فى قصيدة له.
وكشف سليم حداد عن آخر كلمات كتبها والده، ووجدوها على مكتبه يوم وفاته وهى: «مات اللى كان ناوى يموت ولا يقطع دابر أمل المساكين فى الأكابر»، وكانت بمثابة وصية له على حد وصفه، فقد كان منهجه فى الحياة الدفاع عن المساكين والفقراء والمظلومين.


حسن: ترك المستقبل المضمون ليعيش مع البسطاء ويتحدث باسمهم

«لا يختلف فى حياته الشخصية عن أشعاره».. بتلك الكلمات وصفه حسن حداد، أصغر أبنائه، موضحًا أن الشاعر فؤاد حداد هو نفسه الإنسان والزوج والأب والصديق، هو الشاعر الذى وقف مع البسطاء وتحدث عنهم وباسمهم، وهو الذى ترك الحياة السهلة والمستقبل المضمون ليعيش مع الشعب ويكون «الشاعر المناضل»، ويتزوج من الطبقة العاملة، ويكون واحدًا من أبنائها الحقيقيين.
بعد ٣ سنوات من زواج فؤاد حداد من زكية إسماعيل، تعرض للاعتقال مرة ثانية فى عام ١٩٥٩، لمدة خمس سنوات.
يستشهد «حسن» بوصف أخيه «أمين» تلك الفترة بأنها كانت «أيامًا مريرة»، لا تعرف والدته متى سيعود وهل سيعود أم لا، فقد أحس ابناه «سليم» و«أمين» باليتم المؤقت، لكن إيمانها به هو الذى ألهمها الصبر والجلد وتربية الأبناء حتى عودته سالمًا.
ظروف قاسية مرت بها قصة حب فؤاد حداد مع زوجته، بداية من الاعتقال قبل الزواج وبعده، لكن الحب والاحترام وإيمان كل منهما بالآخر كان الحافز لتحمل صعاب الحياة، وكان قد أهدى إليها أشهر دواوينه بعنوان «المسحراتى».
وعن ذكرياته معه يقول إن والده كان مع أولاده كأى أب مصرى، «محبًا لنا ونعتبره مثلًا أعلى يُحتذى به فى الحياة والأدب، تعلمنا منه المبادئ عن طريق أشعاره، فجميعنا نحفظ معظم الأبيات ونسعى جاهدين طوال عمرنا لأن نرددها ونعمل بها». ويضيف: «كان صديقى الأول فى الحياة، لم أخجل منه أبدًا، ودائمًا ما كنت أحكى له ما أريد وأسأله فيجيب، وكم تمنيت بعد وفاته أن أبقى معه أكثر».
ويشير إلى أن والده فؤاد حداد عاش حياته من أجل حرية الإنسان وحقه فى حياة أفضل، و«بالتالى ترك لنا حرية الاختيار كاملة فى الدراسة والعمل، وكان يحبنا جميعًا على نفس القدر ولم يفرق نهائيًا فى معاملتنا وذكرنا جميعًا فى أشعاره».
ويختتم: «لم يفكر فؤاد حداد إطلاقًا فى كتابة وصيته، فالقارئ الجيد لأشعاره يجد بها كل ما يفكر به الشاعر، وكل ما يريد أن يقوله ويوحى به».


أحمد الحفيد الوحيد الذى رآه: ما زلت أشعر بوجوده معى فى الحياة

للشاعر الراحل فؤاد حداد ٦ أحفاد، وجميعهم فخورون به، ودائمًا ما يقولون إن أكثر ما كانوا يتمنونه فى حياتهم هو رؤيته، لكن الشاعر أحمد حداد، الحفيد الأول، وإن كان لا يتذكره تمامًا، إلا أنه رآه، فقد كان عمره ١١ شهرًا عندما توفى جده.
يقول «أحمد»، بحسب ما رواه له والده، إن جده فرح بقدومه وتعلق به بشدة وكتب له قصيدة جميلة بمناسبة سبوعه.
ويؤكد «أحمد» أنه يحس بوجود جده فى الحقيقة، كأنه قابله تمامًا، وأحيانًا كثيرة يشعر وكأنه يتحدث معه من خلال دواوينه وقصائده، فجميع أعماله مقربة لقلبه لجمعها بين الكم والكيف والتنوع، ففؤاد حداد يمتلك لغة لم تتغير، يعبر بها عما يريد بسلاسة وبساطة.
ويروى أنه تعلم من فؤاد حداد العروبة وحب الوطن وفلسطين: «إحنا كجيل اتعلمنا الوطنية من ناس قليلين منهم فؤاد حداد ومحمود درويش وفيروز وآخرون، لكن فكرة الحفاظ على القضية الفلسطينية وأن العدو هو إسرائيل، كل ما الفكرة دى تتلاشى نرجع لجدودنا وأصولنا الثقافية وأهمها حداد».
وعن جده يقول: «كان إنسانًا فى الأدب والشعر، وفى الإنسانية بالتأكيد، مكانش بيلعب دور الأديب اللى محدش يكلمه، اللى هو صاحب الأنا العالية والكلمة الأخيرة، كان إنسانًا بسيطًا وتلك البساطة هى سر عظمته، هو إنسان معتز بنفسه ولا يقلل من نفسه، إنسان بسيط ومتباسط مع كل الناس». «خلطة مش دايمًا بتبقى موجودة، ومتلاقيش فيها أى زيف أو كذب».. هكذا أشاد «أحمد» بتجربة جده الإبداعية، كما تميز عن غيره فى مخاطبته جميع الفئات والأعمار، فاعتاد حفيده منذ صغره على أشعار الرقصات التى اشتهر بها، مثل «الدبة»، و«البغبغان»، و«الثعبان»، و«الدب»، و«الفأر»، وغيرها.
يقول: «تربيت على تلك الأشعار وكنت أعتقد أنه (كلام أطفال)، لكن مع الوقت اكتشفت أنها فلسفة كبيرة، وبها عظمة وإنسانية كبيرة لا توصف». لـ«أحمد» رسالة شكر يوجهها لجده الشاعر فؤاد حداد، فهو من الأصول التى يعود إليها دائمًا، ويشكره على الإنسانية التى علمها له والمبادئ التى زرعها داخله من خلال شعره.