رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جدال الدستور بعد أربعين عاماً


ولقد بالغ الكثيرون فى أهمية أن يستشار المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى شخص وزير الدفاع، وهو ما أراه ليس له ما يبرره، فالمؤكد أن أى رئيس فى أى بلد لا بد أن يختار لهذا المنصب من يمكنه التعاون مع كبار العاملين فى وزارة الدفاع والقوات المسلحة على وجه الخصوص.

يكتمل يوم الأحد السادس من أكتوبر أربعون عاما على بدء مرحلة الاقتحام فى الصراع العربى الإسرائيلى والتى بدأت ببدء الهجوم المصرى السورى على الاحتلال الإسرائيلي، وهى ليست بداية للحرب كما يصورها الكثيرون، ولكنها بداية لمرحلة جديدة منها، وما زال الجدال كثيرا حول هذه الحرب، وهو جدال يشارك فيه الكثيرون من تخصصات مختلفة، فبعضها صحفى وسياسى وبعضها بحث علمي، والبعض الثالث أدبى، وربما كانت هناك تخصصات كثيرة غيرها، خاصة أن كل تخصص ينقسم إلى تخصصات فرعية، فمثلا يمكن أن تنقسم إلى تخصص العلاقات العربية والتعاون العربى بالتخصص بين مصر وسوريا، وبين الدولتين وباقى الدول العربية، فى حين يرى الآخرون دراسة الحرب من حيث العلاقات المصرية بالاتحاد السوفييتى، وآخرون يدرسون العلاقات السوفييتية العربية حيث اختلفت علاقات السوفييت مع سوريا عنها مع مصر. ولا يمكن المرور على الحرب فى أكتوبر 1973 دون البحث عن الاقتصاد فى كل من مصر وسوريا، أما الأهم من وجهة نظر الكثيرين فهو الأساس الاجتماعى للحرب خاصة المرحلة المقصودة من الصراع، وأخيرا هناك من ينظر إليها من خلال أشخاص بعينهم، مثل دور عبد الناصر يقابله دور السادات، ودور عبد المنعم ر ياض، ودور أحمد إسماعيل ودور سعد الدين الشاذلى، والجمسى، بل إن الحديث عن دور الرئيس الأسبق حسنى مبارك والضربة الأولى ما زال قائما.

أظن أن الأساس الاجتماعى كان أكثر الجوانب تأثيرا فى الصراع الذى بدأ مرحلته الجديدة فى 6 أكتوبر 1973، فالواقع أن الذين أداروا الحرب هم ممثلو المنتفعين من ثورة يوليو 1952، فلقد أجل الكثيرون مطالبهم الاجتماعية الملحة أكثر من ست سنوات، فقد ترك كثير من رجال القوات المسلحة أسرهم التى كانت فى حاجة إلى وجودهم ليلتحقوا بالجبهة، وأجل بعض أعضاء هيئات التدريس بالجامعات تقديم بحوثهم ورسالاتهم للحصول على درجات علمية أكبر لحين حسم الصراع، وهو ما يؤكد أولا ثقتهم فى قضيتهم وقدرتهم على تحقيقها، وثانيا ثقتهم بارتباط قضية الصراع بما اكتسبوه من خلال ثورة يوليو، أى أنهم وهم يستعدون لخوض الصراع يدافعون عن مكاسبهم الاجتماعية التى حصلوا عليها.

من جهة أخرى فإن سكان منطقة قناة السويس الذين هاجروا وهجروا من مدنهم وقراهم بعيدا عن المنطقة حرصا عليهم، قبلوا أن يغادروا بيوتهم مؤقتا، واثقين فى حتمية عودتهم إليها، ولكنهم قبلوا بتأجيل الكثير من خططهم لحين التحرير والعودة إلى منازلهم، وهى تضحيات هائلة قبلها أبناء الشعب المصرى ببساطة، ولا أستطيع أن أنسى تضحيات العمال الذين ساهموا فى بناء القواعد الجوية وقواعد صواريخ الدفاع الجوى وعمال مصانع العمق مثل عمال مصنع أبى زعبل، وأخيرا أهالى تلاميذ بحر البقر.

كانت هذه تضحيات اجتماعية وجماعية هائلة لا يستطيع أن يقدرها إلا من عايشها معيشة يومية حينما تشعر بالضغوط الاجتماعية التى عاناها أبناء هذا الشعب سواء من العسكريين أو المدنيين، والتى كانت لا بد وأن تظهر على السطح من حين إلى آخر مما كان يستدعى التدخل الإنسانى من وقت إلى آخر للحفاظ على التوازن النفسي، لكن المؤكد أن الشعب المصرى وقواته المسلحة لم يفقد ثقته فى قدرته على تحقيق أهدافه فى استعادة أرضه واستعادة كرامته.

من هنا كان من الواضح أن القوات المسلحة المصرية قد ألزمت نفسها خلال الحرب والتحضير لها بمجموعة من القواعد الأخلاقية والشرفية التى تأبى أن تتنازل عنها باعتبارها ضرورات لتحقيق المهام، وليست مجرد شعارات ترفعها أو تتشدق بها. كان من أهم هذه القواعد هى: إنكار الذات، والتعامل بشرف، والاتحاد من أجل تحقيق الأهداف، وهو ما يتنافى مع أن تسعى القوات المسلحة لتحقيق مكاسب شخصية لأبنائها، أو أحلام السيطرة أو الهيمنة أو الاستقلال.

استدعى هذه الأفكار أن اتصل بى الكثيرون، بما فيهم قناة الجزيرة، ليتساءلوا عن أسباب تشكيل لجنة مصغرة منبثقة عن لجنة تعديل الدستور المعروفة بلجنة الخمسين لدراسة المقترحات بخصوص المواد المقترحة للدستور حول القوات المسلحة وكانت الأسئلة مغلفة أحيانا، وأحيانا سافرة حول سعى القوات المسلحة إلى الهيمنة أو الاستقلال وألا تكون خاضعة للرقابة الشعبية، وقد لاحظت كيف أن الأسئلة فى كثير من الأحيان تقف موقف الاتهام من القوات المسلحة، وأنها فى كثير من الأحيان تعكس خلفية كارهة للقوات المسلحة وللعسكريين عموما، كما أنها فى كثير من الأحيان كانت تتبنى وجهة نظر الجماعات ذات الطابع الإرهابى التى تتستر بالدين لتحقيق أهدافها، وهى تلوى الحقائق لتخفى أهدافها الخفية أو المنظورة.

ولقد أوضحت وجهة نظرى فى ردودى عليها وها أنا أكررها كتابة لمن لم يسمعها أو يشاهدها، إذا كانت لديه رغبة فى معرفة الحقائق أو على الأقل وجهة النظر الأخرى. إن القوات المسلحة لا تسعى إلى الهيمنة أو الاستقلال وأنها تدرك حقيقة أنها قوات الشعب وبالتالى هى تخدم هذا الشعب، ولا يمكنها الاستقلال عنه، وهى أكثر من غيرها، بل أكثر من أى جهة أو مؤسسة للدولة تدرك تبعية الاستراتيجية العسكرية للسياسة، لكن القوات المسلحة تستشعر من التجارب السابقة أنها يمكن أن تتعرض لسوء الاستخدام مما يعرضها ويعرض الشعب للخطر، خاصة أنها ربما أهم المؤسسات المسئولة عن الأمن القومى، لذا فإن المواد المقترحة فى الدستور تسعى إلى تنظيم مسئولية قضايا الحرب والصراع المسلح من المسئولية الشخصية إلى المسئولية المؤسسية، وهكذا تصبح تبعية القوات المسلحة للقيادة السياسية ليست مرتبطة بشخصية رئيس الدولة، وإنما باعتبار أنه يرأس مؤسسات مثل مجلس الأمن القومى ومجلس الدفاع الوطني، وحتى لا تتكرر المواقف التى دفعت أحيانا القوات المسلحة إلى اتخاذ مواقف مخالفة لموقف رئيس الدولة مثل يوليو 1952 ضد الملك فاروق، ثم ضد محمد نجيب فى 1954، ثم ضد حسنى مبارك فى يناير 2011 ثم ضد محمد مرسى فى 2013، بينما اختلف الرئيس عبد الناصر وعامر، ثم إن السادات فرض نفسه على القوات المسلحة بقيادة محمد فوزى ومحمد أحمد صادق، بينما طلب كل من أحمد إسماعيل والجمسى منه تعليمات مكتوبة، هذا يؤكد أن التجربة تطالب أن تكون هناك وسيلة لتجنب أو تنظيم الخلاف بين رئيس الدولة وقيادة القوات المسلحة بما يمكن أن يكلف الدولة الكثير لا من أموالها فقط، بل ومن كرامتها واستقلالها أيضا.

ولقد بالغ الكثيرون فى أهمية أن يستشار المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى شخص وزير الدفاع، وهو ما أراه ليس له ما يبرره، فالمؤكد أن أى رئيس فى أى بلد لا بد أن يختار لهذا المنصب من يمكنه التعاون مع كبار العاملين فى وزارة الدفاع والقوات المسلحة على وجه الخصوص.

■ خبير سياسى وإستراتيجى