رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السيسى.. ناصر


هناك ميل متزايد لدى قطاعات واسعة لتصوير السيسى كأنه عبد الناصر جديد، أو كحد أدنى «تكرار» لزعامة ناصر وتجربته. البعض يعتقد فى ذلك بالفعل وبصدق. والبعض الآخر خاصة من بين الإعلاميين وضيوف التليفزيون لديه أنف مدربة على التقاط اتجاه الريح ورصد أضعف الذبذبات فى انتقال السلطة من جهة لأخرى، وتضخيم تلك الذبذبات وتأييدها لحجز مقعد فى حفلة الحكم القادم.

تصريحات كثيرة أدلى بها كتاب وشعراء فى ذلك الاتجاه من نوع «الناس يحبون السيسى لأنهم يرون فيه صدى عبد الناصر».الإذاعة والتليفزيون والصحف الرسمية التى لم تتوقف يوما عند ذكرى رحيل ناصر لبدت هذه المرة فى ذكرى الرحيل، كأنما تحتفل ليس بذكرى رحيل ناصر بل باستدعاء صورة «الضابط الوطنى» لترسيخ الشبه بين ناصر والسيسى. ما لم نسمعه فى وسائل الإعلام الرسمية من قبل من أغنيات ثورة يوليو سمعناه هذه المرة، كأنه احتفال ليس بالماضى بل بالمستقبل، وليس بذكرى بل بحاضر. ويوما بعد آخر يتم الترويج لصورة السيسى بصفته الحلم الذى شهدناه يوما، وأصبح الآن – بمعجزة – فى متناول أيدينا من جديد. وواضح أن السيسى حريص بدوره على تعميق ألوان تلك الصورة. لهذا – على سبيل المثال - تعلن القوات المسلحة عن منح عدد ضخم من الوجبات الغذائية على نفقتها لسكان كرداسة، كما سبق أن أعلنت عن ترميم مسجد الفتح ورابعة على نفقتها. ولو لم يكن المقصود بتلك الإجراءات المعلنة تعميق صورة «السيسى – ناصر» لقامت الحكومة بتحمل تلك النفقات، خاصة أنها ليست ضخمة. ومن كثرة انفراد المؤسسةالعسكرية بخطوات خيرية يتم الإعلان عنها على نطاق واسع أخذت المؤسسة تبدو كأنها حكومة بلد آخر تقدم المعونة للشعب المصرى. فى الإطار ذاته يتم الإعلان عن موقف «القوات المسلحة» من هذه القضية أو تلك، كأنما المؤسسة العسكرية جهازقائم بذاته له ثقله الخاص ومواقفه المستقلة عن الدولة. أنا شخصيا لست ممن يصادرون على حق رجل عسكرى فى العمل الوطنى أو الترشح للرئاسة بدعوى أنه من العسكر. فقد تجرعنا رئيسا «مدنيا» هو مرسى العياط وكان ذلك درسا كفيلا بطرد وهم أن «الرئيس المدنى» دواء لكل داء. ما يهمنى فى الرئيس المقبل هو توجهاته السياسية والاقتصادية. وفى العالم رؤساء كثيرون مثل باراك أوباما – رسميا رئيس مدنى لا ينتسب للمؤسسة العسكرية - وفعليا مجرم حرب ومندوب للمؤسسة العسكرية ويمارس سياسة حربية بحت. وهناك عشرات البلدان التى ترزح تحت ديكتاتورية رؤساء مدنيين. أيضا فإننى لا أصادر على حق السيسى فى التطور، أو تبنى سياسة وطنية، لكن ذلك رهن بالمستقبل وبما سيفعله السيسى نفسه. وليس للسيسى رصيد حتى الآن سوى أنه أطاح بمرسى. ولا أتصور أن تلك الخطوة تمت بعيدا عن الموافقة الأمريكية، فقد كان بوسع واشنطن أن تتدخل لحسم الأمر لصالح مرسى خلال مهلة الأيام الثلاثة التى منحها السيسى لمرسى. والموافقة الأمريكية لا تعنى بالحتم رضاء أمريكى عن السيسى ذاته، لكنها قد تكون مجرد موافقة على خلع مرسى لا أكثر. خلال ذلك كله تجرى عملية تقديم صورة مدمجة لملامح «السيسى – ناصر». والذين يروجون لتلك الصورة يتجاهلون كل الحقائق، وفى مقدمتها الظروف التاريخية المختلفة تماما وغير القابلة للتكرار التى ظهر فيها عبد الناصر. فقد تمتعت شعوب العالم الثالث حينذاك بهامش للمناورة بين قوتين عظميين هما أمريكا والاتحاد السوفييتى. ولم يعد ذلك الهامش موجودا. ثانيا أن عبد الناصر كان يمثل فكرة للتحرر تقوم على الاستقلال الاقتصادى والسياسى والانحياز للطبقات الشعبية. ولم يعد الوضع الدولى يسمح بذلك المشروع القومى للتحرر. أخيرا فقد كان عبد الناصر يتحرك فوق موجة من ثورات العالم الثالث وقواه الهادرة، ولم يعد ذلك موجودا. أيضا علينا أن نراعى حتى الفروق الذاتية، الشخصية، بين عبد الناصر والسيسى، فقد جسد ناصر حالة الضابط الوطنى الثائر الذى اعتصرت نكبة فلسطين قلبه، ورفض الانسحاب من الفالوجا، ثم قام سرا رغم خطورة ذلك بتكوين تنظيم سرى معاد للقصر والاستعمار، ثم وضع روحه على كفه فخرج ليلة الثورة قاتلا أو مقتولا لخلع الملك. أما السيسى فقد برز فى ظل توازن قوى سياسى محدد وبدا أشبه بزعيم حزب معارض علنى يخوض معركة انتخابية. وبينما تشكل وجدان عبد الناصرفى حركته ضد النظام السياسى القائم حينذاك، تشكل السيسى فى حركته مع النظام السياسى القائم قبل 25 يناير. لا الظروف التاريخية، ولا السمات الشخصية، ولا السيرة الذاتية، ولا المهام المطروحة تسمح بتكرار تجربة ولدت فى لحظة معينة وفى ظرف خاص.

إن دوران السيسى فى فلك «الشبيه» لن يفسح له مساحة لدور سياسى ذى وزن حتى لو ظل لعشرات السنوات يزور قبر عبد الناصر ويقف فى بيت الزعيم الراحل لالتقاط صورة. إنه بذلك كله يغازل الماضى فحسب ويثير الحنين، من دون أن يطرح حلولا للحاضر ويحرك الأمل. الخطورة السياسية والوطنية فى الترويج لدور «الشبيه» أنه يجعلنا نصوب أبصارنا إلى الماضى – أيا كانت عظمته –وليس إلى المستقبل! بينما يريد الناس تغييرا «هنا، والآن، وليس هناك، وحينذاك»!

■ أديب وكاتب