رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد وليد بركات يكتب: كل شيء للبيع!

محمد وليد بركات
محمد وليد بركات

عجيب هذا العصر الذي نعيش فيه من حياة هذا الكوكب، عصر تديره المصالح والمنافع المادية بامتياز، وتتحكم فيه الأموال، ويحكم أصحابها، ويبيعون ويشترون كل شيء، وأي شيء.

وقبل أن تُعرض عني – عزيزي القارئ – دعني أؤكد لك أنني ما جئت شاهرا سيفي على من يبيعون، ولا مدعيا الفضيلة وباحثا عن الـ"يوتوبيا"، فليس لها وجود في عالمنا، ولست ضد "البيع" في ذاته، وإنما علينا أن نقيمه في ضوء الغرض منه، والأموال التي تديره، ولو كانت لديّ الفرصة لأبيع هذا المقال مقابل المال، لما ترددت، ولكنها لم تسنح بعد.

كانت التجارة منذ القديم للبضائع والسلع، وعرفها الإنسان أول ما عرفها بأسلوب المقايضة، سلعة بسلعة، ثم اُخترعت النقود، وكانت من المعادن النفيسة، ثم ظهرت النقود الورقية، على أن يكون للدول رصيد من الذهب في خزائنها المركزية، تعطي قيمة لأوراقها النقدية، وبعد تدمير الاقتصاد الأوروبي في الحرب العالمية الثانية، فرض الدولار الأمريكي نفسه كعملة للاقتصاد والتجارة العالميين، واعتبرت أمريكا، المنتصرة في الحرب، رصيدها الذهبي، مصدرا للثقة في عملتها، حتى بلغ حجم التجارة العالمية عام 2018، ما قيمته 19.48 تريليون دولار، والتريليون هو رقم واحد يزين يمينه 12 صفرا، أي أنه "مليون مليون".

دعك من هذا فالطبيعي أن يتبادل البشر السلع، والخدمات، التي تتزايد قيمة تجارتها بوتيرة أعلى من السلع، لأن التكنولوجيا الحديثة ساعدت على ذلك، ولكن الجديد أن تباع أمور لم نكن نتخيل أن يتم "تسليعها".

كانت الخبرات الحياتية تنتقل من جيل إلى آخر، عبر دروس الآباء والأجداد، وحواديت الأمهات والجدات، إلى أن ظهرت "دورات التنمية البشرية"، فتحولت الجلسات الودية إلى "سبوبة" مدفوعة الأجر، وظهر العشرات من المُنَظّرين محليا وعالميا، وصدرت لهم المئات من الكتب، يشتريها الباحثون عن الشهرة والنجاح والثروة، ولما انكشفت اللعبة و"اتحرق الكارت"، ورث تركتها الـ"Life coaches"، الذين راحوا يكملون المسيرة بمسمى جديد.

"الجمهور" أيضا أمسى سلعة تُباع، فصناعة الإعلام والسينما والغناء، تحكمها محليا وعالميا معادلات ربحية، محتوى جاذب للمشاهدين والقراء والمستمعين، نقدمه لهم مجانا أو بمقابل رمزي، ثم نبيع الجمهور للمُعلنين، ونقبض الثمن، وقد يكون الجمهور مرضى لطبيب، أو سيدات لمركز تجميل، أو جوعى لـ"شيف"، ولكي نكون منصفين، الربح الإعلاني حق لصُناع المحتوى، خاصة أن الكثير من المحتوى غير مشفر، والقراصنة على الانترنت يدمرون الصناعة بلا رحمة، ولكنه الحق عندما يُراد به باطل، فحق صُناع المحتوى في الربح، لا يبرر ترويج الابتذال والإسفاف بحجة أن "الجمهور عاوز كده"، وإلا بررنا بنفس المنطق تجارة المخدرات لأن هناك من يُريدها.

الجسد.. يُباع جملة وقطاعي..! فمن تجارة الأعضاء التي تدر أرباحا بلغت نحو 8 مليارات دولار عام 2018، إلى صناعة الإباحية التي يُتوقع أن يتخطى حجمها مليار دولار عام 2025، وهي أرقام تقريبية لأنها ترصد أعمالا غير مشروعة في كثير من البلدان.

وبالتالي فلا وجود لإحصاءات دقيقة حولها، إلا أن ما يهمنا أن الجسد صار سلعة تباع وتشترى، إما في بيوت الدعارة التقليدية التي تمنحها بعض الدول تراخيص للعمل، أو عبر المواقع الإلكترونية التي تقدم نفس المحتوى، أو حتى بتوظيفه كعنصر جذب في إعلانات بيع منتجات أخرى، أو في المستشفيات "الحرام" التي تسرق قرنية، أو كُلية، أو فص كبد، من هذا؛ لتبيعه إلى ذاك، أو بالتراضي بين بائع أذلّه العوز، وشاري يدفع لينقذ حياته.

التدين والوطنية أيضا أمسيا مما يُباع ويُشترى، فبإنفاق المال، أو بتقديم فروض الولاء والطاعة سياسيا وحزبيا، أو بالمجاملة في "زفة" الإعلام، تستطيع أن تحصل على "صك" بالولاء إما للدين أو للوطن، لتصير من "الأهل والعشيرة"، أو "المواطنين الشرفاء"، وإلا تم إبعادك وتهميشك وربما التضييق عليك.

أما الأمر القديم الجديد فهو بيع الأراضي، ولا أقصد هنا بيع أرض للبناء عليها أو زراعتها، أو حتى "تسقيعها" ثم بيعها بمبلغ أكبر، وإنما المقصود بيع أراضي دول أو "منحها" في سوق "النخاسة" لأخرى، ومعها السيادة والكرامة الوطنية في "باكدج" يمثل عرضا خاصا.

عرفنا في 1917 وعد بلفور الذي لم يملك فلسطين، للصهاينة الذين لم يستحقوها، وطلّ علينا سيد البيت الأبيض ذي القلب الأسود ترامب، ليمنح إسرائيل القدس الشرقية، عاصمة حُلم الدولة الفلسطينية، وليهذي بحديث عما أسماه بـ"صفقة القرن"، التي لا نعرف على وجه التحديد بنودها المُهينة، إلا أن المؤكد أن الحدأة الأمريكية لن ترمي لنا الكتاكيت.

إذن كل شيء يُباع، الأفكار والخبرات، والجمهور، والأجسام، والتدين، والوطنية، والكرامة والسيادة، قد تٌباع أنت شخصيا، ولا تدري، قد يٌباع مستقبلك ومستقبل أولادك، ولا تدري، قد تُعقد صفقات هنا أو هناك ويوقع أحدهم نيابة عنك، ولا تدري، ولأنك لا تدري.. لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.