رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ممدوح شكري: الكفاءة وراء رئاستي لجامعة "يورك".. وإصلاح التعليم في مصر يتطلب رؤية شاملة

ممدوح شكري مع الزميل
ممدوح شكري مع الزميل حمدين حجاج


لم أكن أملك قدرًا من المعرفة الكافية بسيرة الدكتور ممدوح شكري؛ فقط حديث عابر جمعني مع أحد الأساتذة، وردت فيه قصة ذلك العالم الجليل قدرًا دون ترتيب، أفاض هذا الأستاذ في الحديث عن "شكري"؛ والذي صنع رحلة صعود فريدة في الخارج، وتحديدًا في مدينة "تورنتو"، عندما نجح هناك في رئاسة جامعة "يورك"، وهي واحدة من أكبر الجامعات داخل قارة أمريكا الشمالية؛ كأول مصري مسلم يصل لتلك المكانة الرفيعة.

على الفور بدأت في التواصل معه؛ حدد لي الميعاد ورتب لي اللقاء؛ في الموعد المحدد وجدته في انتظاري، بعد الترحيب وتبادل الكلمات دافئة المشاعر، تقمص الضيف دور المحاور، وقبل أن أبدأ في طرح أسئلتي، طالبني قبل أن نخوض في حديث الفكر وصراعات السياسة وهموم العلم، وهي المحاور الثلاث التي حددتها للحديث معه بشأنها... وإلى نص الحوار:



* تلقيت تعليما ممتازًا في المدارس الحكومية.. ولم أخطط للهجرة

طلبت منه أن يبدأ حديثه بحكي مشاهد من رحلة البداية ورصد لمحات من رحلة الصعود، فقال:"أنا من مواليد حي مصر الجديدة في فترة الأربعينات، وقتها كان هذا المكان درة أحياء القاهرة، والكعبة التي تحج إليها كافة الطوائف الأجنبية القادمة إلي القاهرة، كان تمثيلًا حقيقيًا لفكرة "المجتمع الكوزمابولتيان"، فهناك تعرفت على فكرة التنوع وأمنت بالتعددية، وتلك ميزة اكتسبتها في سن صغيرة، وأضافت أبعاد مختلفة لشخصيتي أفادتني لاحقا في حياتي؛ فلم يكن هناك مثقال ذرة تمييز تراها أو تحسها".

يسترجع شكرى ذكرى التحاقه بكلية الهندسة جامعة القاهرة،:"لم يكن مستغربا، فمعظم أفراد عائلتي كانوا قد سبقوني في الالتحاق بكليات القمة، وأوضح أنني كنت طالبا بالمدارس الحكومية، حينها كانت تمتع بدرجة عالية من الرقي ومستوى الأساتذة حينها كان بديعًا".

يكمل "شكري":"كل الأجواء المحيطة بي كان تدعمني نحو النجاح، بدءً من الأسرة التي كان مستوي الوعي بها كبيرا، ولديها درجة عالية من الانفتاح بمقاييس زمنها وليس زمننا الحالي؛ فوالدي كان رجلا شديد التدين وفي الوقت ذاته كان فكره سابقا لعصره بكثير، وقد فتح نوافذ القراءة أمامي مبكرا وشجعني عليها، وأذكر أنني قرأت كتاب "الفتنة الكبرى" وأنا ابن السادسة عشر؛ وإلي الآن أقرأ بصفة يومية كتابين أحدهما بالعربية والأخر بالإنجليزية؛ وهي ميزة يعود الفضل لأبي في ارتباطي بها".

ويستطرد:"بالإضافة لذلك كان هناك تشجيع دائم من الأصدقاء، فجميعنا كنا متفوقين، وهذا أسفر عن وجود حمية خاصة بداخل كل واحد منا، وإلي الآن مازالت على تواصل معهم، وفي كل زيارتي للقاهرة أحرص على الالتقاء بهم، نستعيد سويا الذكريات ونتبادل الرؤى في الشأن العام".

في تلك الآونة كانت كلية الهندسة هي الحلم الذي يراود "شكري"، وكالطيف الذي يداعب خيال كافة طلاب مصر، فالدولة حينها حسب توصيفه،:"كانت تشهد موجة كبيرة من البناء والتنمية، وصار الاعتقاد بأن مصر في اتجاه التحول لأن تكون دولة صناعية، وكافة الظواهر كانت تبشر بذلك، لذا أذكر أن غالبية الطلاب من الثلاثين الأوائل على الثانوية العامة قد اختاروا الالتحاق بها، مفضلين إياها عما سواها من الكليات الأخرى".

وعندما أنهيت مرحلة الجامعة، لم أخطط للهجرة للغرب، ولم تراودني تلك الفكرة إطلاقا؛ فقط كل ما كنت أبحث عنه هو السفر للخارج للدراسة والحصول على الدكتوراه، لذا بدأت مبكرا في مراسلة العديد من الجامعات الموجودة في أمريكا وكندا وبريطانيا؛ فلم أكن أملك طاقة انتظار أن يتم ترشيحي لأحد البعثات والتي تتطلب وقتا طويلا لم أكن لأستطع عليه صبرا.

قاطعته وهل تفضيلك الاستمرار في الخارج عائد إلي الوضع الذي أصبحت عليه الدولة بعد أن أوجعتها النكسة وضربتها في مقتل غير وجه الحياة بها؟؛ أجاب: "لا.. لم يكن ذلك هو السبب إطلاقا"، لكني هنا لابد من وقفة؛ أنا لست من هواة فكرة الأبيض والأسود، وضد استخدام أفعل التفضيل على طريقة العالم الفذ والرئيس الأعظم ومن يسير على تلك الشاكلة؛ وللأسف تلك ظاهرة ضررها أكبر من نفعها.

فمثلا أعترف بأنني كنت مؤيدًا وبشدة لكل المبادئ التي صاغتها ثورة يوليو، ومازالت إلى الآن مقتنعا بها؛ فقط كان اختلافا معها نابعا من فكرة التطبيق؛ فعندما تعطي الفقراء ليس شرطا أن يكون ذلك مرتبطا بإفقار الأغنياء، وعندما أقمت في الغرب وجدت تلك قيم العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر التي دعا إليها "عبدالناصر" مطبقة في الغرب، فهم يعتبرونها قيم إنسانية لا يستقيم أي مجتمع دونها.

ويضيف؛ في ديسمبر عام 1979 كنت قد أنهيت رحلة الحصول على الدكتوراة، عدت مجددا إلي مصر، وعندها بدأت في استطلاع هلال الأوضاع، فقد كانت خيارات عدة متاحة أمامي أما العودة للجامعة مرة أخري للتدريس، أو ممارسة بعض الأنشطة التجارية، لكنها أعمال لم تكن لي الرغبة في خوضها؛ فقررت حينها العودة من جديد لكندا، لتبدأ مرحلة جديدة في حياتي بعدها.

أفاض الدكتور "شكري" كثيرا في الحديث عن ذكرياته ورحلة صعوده؛ كان منطقه عائدا إلي ما يراه ويعتقده بأن الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة يصنع المعجزات الكبيرة، وضرب مثلا حين قال من يري ويسمع عن مسيرتي يعتقد أنني زرعت الأمس وحصدت اليوم؛ بينما الأمر خلاف ذلك، فقد قطعت رحلة من الكفاح كل شوطا فيها كانت نقلة أستند على نجاحها في المباراة التي تليها.

* إصلاح التعليم في مصر مرتبط بوجود رؤية شاملة للدولة.. أمنحوا طارق شوقي الفرصة ثم أحكموا.. والملف أكبر من أن يتحمله شخص بمفرده

دعوته للحديث عن رؤيته لمستقبل التعليم سواء الجامعي أو ما قبله في مصر، ورأيه في مشروع الوزير طارق شوقي وأداءه؛ فأجابني قائلًا: "إصلاح ملف التعليم في مصر لابد وأن يكون مرتبطا بوجود رؤية شاملة للدولة".

فالآن مثلا؛ هناك توسع كبير في إنشاء الجامعات الخاصة بمصر، وعلى نفس الخطى الباب صار مفتوحا أمام الجامعات الأجنبية لإنشاء فروع لها في مصر؛ وهي ظواهر إيجابية؛ لكن لابد أن نسأل ونفكر ما هي الهدف من ذلك؟، وهل بذلك نكون قد اتبعنا أفضل الوسائل لإصلاح المنظومة التعليمية في مصر؟.

رأيي أن تلك الفكرة قد تحدث تطويرا ما؛ لكنها لن تغير من واقع التعليم بالصورة التي نرجوها؛ خاصة وأنها تطرح سؤالا موازيا عن دور التعليم الحكومي وتأثيره هو الآخر في إحداث نقلة كبيرة على مستوي التعليم.

فمثلا تطوير التعليم يحتاج إلي فرضية يتم البناء عليها وهي ضرورة أن تكون الأعداد المقبولة بالجامعات على قدر الإمكانيات المتاحة، ففكرة قبول أعداد مهولة من الطلاب في الجماعات لم يعد لها جدوى أو ذات معني، وكافة الجامعات الكبيرة على مستوى العالم أصبحت مؤمنة بذلك، خاصة وأن تلك الأعداد الكبيرة دفعها للتعاقد مع أساتذة تقتصر مهامهم على التدريس وليس البحث، وهي فكرة تنافي الغرض الأساسي من وجود الجامعات.

ولكي تحقق تلك المعادلة فالدولة مدعوة لخلق نوعا من الاستثمار يضاهي فكرة الاستثمار الناجح في البينة التحتية والذي يحدث الآن؛ وتلك فكرة تتبعها أفكار أخري أهمها ضرورة تشجيع التعليم الفني وتطويره».

بالإضافة لذلك؛ لابد وأن تكون العلاقة طردية بين ما يتحصل عليه الأستاذ الجامعي والمدرس من راتب وما يقدمه من خدمات جليلة؛ فلابد وأن يكون متفرغا بصورة كبيرة للرسالة التي يقدمها، أيضا؛ حان الوقت لإعادة النظر في ملف التعليم الأزهري؛ فالأزهر يجب أن يقتصر دوره على العلوم الدينية لا العلوم الإنسانية؛ فنظام التعليم الأساسي يجب أن يكون موحدا؛ ما يسري على هؤلاء يدور على تلك الفئة.

وعن رأيه في أداء الدكتور طارق شوقي بيَن:" وزير التعليم يبذل مجهودا ملحوظا، ويحاول أن يحدث نقلة كبيرة على مستوى، فقط أري فكره يسبق تفكير من حوله في بعض النقاط؛ ويكفيه جرأته في قصة "التابلت التعليمي"؛ أمنحوه الفرصة كاملة ودعونا نحكم".

أقول قولي هذا باعتبارها شهادة؛ فأنا لا تجمعني معه أيَة علاقة شخصية، ولم نتقابل أو نلتقي في أي وقت.

سألته بحكم السنوات الطوال التي قضيتها في الخارج؛ لماذا لم تقدم رؤية أو تطرح فكرة كنوع من الدعم لتطوير التعليم العالي قال:" لأنه لم يطلب مني ذلك؛ لكني لن أبخل بخدماتي على وطني حال إذا ما عرض عليا ذلك".

مشكلة التعليم في مصر أكبر من أن يتحملها شخص بمفرده؛ في الغرب توجد استراتجيات واضحة؛ حتي في الطريقة التي يتم بها اختيار القيادات الجامعية هناك ثوابت وأسس يتم البناء عليها، فمثلا لم أفكر يوما في رئاسة جامعة أي جامعة؛ فوقتي كان مسخرا للبحث؛ لكني بعد فترة تم ترقيتي كأستاذ في جامعة "ماك ماستر" الكندية ومن بعدها تم تعيني عميدا لها قبل أن أصل لمنصب النائب ؛ وبعدها بفترة قرر مجلس أمناء جامعة "يورك" اختياري رئيسا لها، كأول مصري مسلم يتولي ذلك المنصب الرفيع.

سألته؛ هل يزعجك توصيفك كأول مصري مسلم يتولي رئاسة جامعة في أمريكا الشمالية؛ خاصة وإن معايير اختيارك بنيت على عنصر ي الكفاءة والقدرة على الإدارة؟

قال:" هذا توصيف لا يزعجني؛ ففي حفل تنصيبي أعلنت فخري بمصريتي واعتزازي كأول مسلم يتولي يصل لتلك المكانة؛ لكن ما يرهقني هو أنه عندما يتم وضعك في قالب، ستجد التفسيرات والتأويلات لكل قراراتك مستندة لتلك الخلفية".

فمثلا عندما تتخذ قرار ما ستجد من يعزي القرار إلي كوني إنسان مسلم وشخص عربي؛ خاصة وأن جامعة "يورك" مؤسسة ذات نشاط سياسي كبير، باعتبارها تضم أكبر تجمع لكل الجنسيات والأعراق القادمة من مختلف أنحاء العالم.

وقد حدث ذلك بالفعل عندما استضاف الطلاب العرب أحد الكتاب الإنجليز المناصرين للقضية الفلسطينية؛ وقتها تعرضت لموجة شديدة من الهجوم من قبل بعض المنظمات والصحف، مستندين في ذلك إلي أنني التصنيف الذي ذكرته، وتلك واقعة تكررت في أكثر مرة وفي مواقف مختلفة.

*الصورة الذهنية عن مصر في الخارج تغيرت تماما بفعل النمو الاقتصادي.. وهناك متابعة جيدة لكل ما يدور في الداخل

قبل أن أطرق باب الحديث مع الدكتور "شكري" في الشأن السياسي، سألته؛ باعتبارك رئيسا لواحدة من أكبر الجامعات في قارة أمريكا الشمالية.. هل العمل السياسي محظور داخل جدران الجامعة؟

- بسرعة شديدة قال:" لا.. إطلاقا؛ أحد الأدوار التي تلعبها الجامعة في الخارج يتمثل في تشجيع طلابها على الممارسة السياسية؛ وليس من حق رئيس الجامعة أو أي جهة ما أن تتدخل لرفض إقامة فعالية سياسية يدعو إليها الدارسون؛ بل القانون يلزمنا بأن نوفر لها المناخ المناسب والتأمين الملائم لتنفيذها".

سألته مجددا؛ مؤخرا أعلنت الدولة المصرية البدء في اتخاذ خطوات تنفيذ مشروع الضبعة النووي، وهي موضوع حَمله البعض بعدا سياسيا.. فهل مصر بإمكانياتها الحالية مؤهلة لتنفيذ ذلك المشروع الضخم؟

قال؛ ما سأذكره هو مجرد خطوط عريضة؛ لأنه لا يمكن الحكم على المشروع برأي قاطع طالما أن الدولة لم تعلن عن إستراتجيتها الكاملة تجاه ذلك الموضوع؛ فمثلا يجب أولا أن نحدد احتياجاتنا من الطاقة خلال الخمسين عاما القادمة، ومن بعدها يأتي الدور على دراسة أسهل الفرص للحصول عليها بما يناسب قدراتنا ويتماشي مع إمكانياتنا.

لكن بالطبع نحن بحاجة إلي أن يكون جزء من اعتمادنا على الطاقة نابع من اعتمادنا على الطاقة النووية؛ باعتبارها طاقة نظيفة، وأيضا فهي تجبر الصناعة على الالتزام بقواعد الدقة لأن فكرة الخطأ غير مسموح به، ومفاعلات الجيل القادم التي تسعي مصر لتنفيذها أكثر أمانا من الجيل القديم، بجانب أنها ستفتح الباب أمام صناعات جديدة غير موجودة.

حدثته بعد ثورتين و3 رؤساء ما هي الصورة الذهنية عن مصر في الخارج حاليا باعتبارك أحد الراصدين للأوضاع بحكم إطلاعك علي ما ينشر ويكتب ويُقال؟؛ أوضح: «الآن نجحت الدولة المصرية في التخلص من فكرة عزل رئيس منتخب، التي كانت دافعا للهجوم على النظام الجديد؛ خاصة أن فكرة الديمقراطية لديهم أحد القضايا المركزية التي يعتبرونها واحدة من أهم القيم لديهم».

حاليا توجد صورة جديدة بدأت ملامحها تتشكل، فهم الآن لديهم قناعة بأن الاقتصاد المصري يتحسن بصورة كبيرة بفعل اكتشافات الغاز ونتائج تحرير سعر الصرف وغيرهم، بالإضافة لذلك أصبح هناك تعاطف مع مصر في حربها مع الإرهاب؛ وأؤكد لك أنه يوجد اهتمام خاص بالحالة المصرية بكافة تفاصيلها؛ فالميراث التاريخي والحضاري الذي نملكه يضعنا في مكانة خاصة».

لكن مع ذلك؛ فهناك تخوف وتحول في خلال الفترة الماضية، بعدما بدأ الكلام يدور على فكرة تغول الجيش في الأنشطة الاقتصادية ومزاحمة القطاع الخاص، وتلك نقطة يجب الالتفات إليها والتعامل معها.

واستكمل "شكري " حديثه ما فعله النظام في تحسين البنية التحتية في مصر حدث عظيم ونقلة نوعية كبيرة، لكن بجانب ذلك لابد وأن تقطع الدولة مسافة كبيرة في إتاحة فرص التعليم الجيد والحصول على خدمة صحية مناسبة وشيوع ثقافة العدل أمام جميع مواطنيها؛ لأن تلك الثلاثية تجعل دائما الإنجاز أشبه بالإعجاز.

دعوة للتفاؤل كانت أخر كلمات الدكتور ممدوح شكري في حديثه مع "الدستور"، حيث بني السبب في اعتناقه لتلك الفكرة نابع من التحديات الجسام التي جابتها مصر طيلة تاريخها الطويل منذ أيام الاحتلال العثماني حتى الفوران الذي حدث في السنوات الأخيرة، لكنه أكد بأن ذلك الأمر سيبقى معلقا بدرجة اهتمامنا بالعلم والعدل.