رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نماذج رائعة من آباء الكنيسة المعاصرين


الكنيسة القبطية، على مر العصور، مليئة بنماذج أبوية رائعة وقد سجلها التاريخ بكل فخر وذلك من أجل إرشاد السالكين بلا ترتيب، والذين أعمت أعينهم الأضواء والهتافات والإعلام والمناصب التى بلا نافع!!
فى عام ١٩٦٨ بدأ البابا كيرلس السادس «١٩٠٢- ١٩٧١» البطريرك ١١٦ يعانى من جلطة فى ساقيه، وتصادف أن يصاب الرئيس جمال عبدالناصر بنفس الإصابة. سافر الرئيس عبدالناصر إلى مصحة «تسخالطوبو» بالاتحاد السوفيتى للعلاج من الإصابة، وتكرم مشكورًا بالاتصال التليفونى بالبابا كيرلس السادس ووصف له إمكانية العلاج من الإصابة ودعاه للذهاب إلى «تسخالطوبو» للعلاج، كما ورد فى جريدة الأهرام على صفحتها الأولى، إلا أن البابا كيرلس السادس شكره على محبته وكرمه ولم يذهب لأنه كان متكلًا على الله بإيمان عميق «الاتكال على الرب خير من الاتكال على البشر»، بينما آخرون يبددون أموال الشعب فى مصحات أوروبية وأمريكية!! كما كان البابا كيرلس يحرص أن يكون بجوار شعبه فى آلامهم وأحزانهم وأيضًا أفراحهم، فيواسى الحزين ويشد من أزر الضعيف ويتهلل مع الفرحين ويسد أعواز المحتاجين. تجلت أبوته الحقيقية مع المصريين، وليس الأقباط فقط، فكان فى شخصه مصدر الترابط بين المصريين بالعمل وليس بالكلام المنمق. كان البابا كيرلس السادس يؤمن حقيقة بقوة الصلاة التى يصليها يوميًا، ويثق فى أن الله هو السند الحقيقى له فى مسئوليته التى سوف يُحاسب عنها أمام ديّان عادل لا يأخذ بالوجوه ولا بالألقاب، وكان يؤمن تمامًا أنه من يده سيطلب الرب دم رعيته. من يدرك خطورة هذه المسئولية؟
أذكر أنه فى شهر أبريل ١٩٧٠ كنت أحضر مع اثنين من أولاد خالى صلوات الجمعة العظيمة (تلك التى تسبق الاحتفال بعيد القيامة أو الفصح) بدير مارمينا بمريوط فى وجود البابا كيرلس السادس. وكانت الصلوات تبدأ من الخامسة صباحًا وتنتهى نحو السابعة مساءً دون توقف، وجميعها صلوات بنغمة الحزن. كان أحد أولاد خالى، وهو طالب فى كلية الهندسة فى ذلك الوقت، قد أحس بجوع شديد نحو الساعة الرابعة، فخرج من كنيسة الدير إلى مطبخ صغير بجوار الكنيسة وبدأ يأكل بعض الطعام البسيط. بعد قليل خرج البابا كيرلس السادس من الكنيسة إلى قلايته التى كانت بالقرب من الكنيسة ليسترح قليلًا بسبب الجلطة التى كانت فى ساقيه. فى أثناء مروره على المطبخ لاحظ شابًا يجلس ليأكل بعض الطعام فلم يفعل أى شىء، ولكن ابن خالى هذا أصابه الاضطراب!! ماذا فعل البابا كيرلس؟ ما إن وصل قلايته البسيطة عاد إلى الشاب مرة أخرى ومعه برتقالتان وقدمهما بنفسه للشاب، وقال له بأبوة فائقة: «خذ يا ابنى وكُل، لأنكم تعبتم فى الصلوات الكثيرة وأنت ما زلت طالب دراسة، كُل يا ابنى وربنا يباركك». أصابت الدهشة ابن خالى وشكر البابا على الأبوة الفائقة. وطبعًا كانت هاتان البرتقالتان من طعام البابا نفسه!!
حدث أيضًا فى نفس اليوم بعد أن انتهينا من الصلوات وتناولنا بعض الطعام، بدأنا الاستعداد للعودة إلى الإسكندرية بصحبة صديق يملك سيارة. وقبل أن نغادر الدير توجهنا إلى البابا كيرلس السادس لتحيته وشكره على استضافتنا بالدير ونخبره أننا سنغادر الدير إلى الإسكندرية، فقال لنا: «يا أولادى الدنيا دلوقتى ليل وكيف ستعودون إلى الإسكندرية؟»، فأخبرناه أننا سنعود فى سيارة صديق لنا، فطلب منا أن نُحضر له هذا الصديق، وعندما حضر صديقنا وامتثل أمام البابا سأله البابا سؤالًا واحدًا وكرره ٣ مرات: «يا راجل أنت بتعرف تسوق كويس؟»، وفى كل مرة يجيب صديقنا بإجابة نعم، وضع البابا يده المباركة على رءوسنا نحن الأربعة وصلى لنا، وقال لصديقنا سائق السيارة: «خلى بالك من الطريق»، شكرنا البابا وانصرفنا.
ونحن فى الطريق أخذنا نتذكر الأبوة الرائعة التى أحاطنا بها البابا العظيم واهتمامه بنا. وفى أثناء الطريق وبالتحديد ونحن بجوار بحيرة مريوط، ربما أصابت الغفلة صديقنا الذى كان يقود السيارة وإذ به ينحرف بسيارته نحو بحيرة مريوط!! وللوقت تنبه واستيقظ من غفلته وأكمل طريقه بسلام، وهنا تذكرنا نحن الأربعة مدى اهتمام البابا بنا، ومدى تأكيده على قائد السيارة أنه يعرف القيادة الجيدة. كان البابا كيرلس السادس متكلًا تمامًا على الله، لم ينخرط يومًا فى السياسة والبروتوكلات المختلفة. كان اثنان يحضران للقاهرة لزيارته: أولهما الإمبراطور هيلا سلاسى الأول إمبرطور إثيوبيا، ولمقابلة البابا كيرلس كان يذهب إليه بالكاتدرائية المرقسية الكبرى بالأزبكية ليحضر صلوات القداس التى يرأسها البابا كيرلس السادس. كما كانت تحضر أيضًا السيدة فتحية نكروما، زوجة الرئيس كوامى نكروما رئيس جمهورية غانا، وهى أصلًا مصرية من القاهرة، وكانت أيضًا تتوجه إلى الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة للصلاة مع البابا كيرلس ونوال بركته. والذى زاره فى فترة مرضه بقلايته البسيطة بالمقر البابوى بالقاهرة بالأزبكية القاصد الرسولى لنقل تحيات بابا روما، وعندما شاهد القاصد الرسولى شدة البساطة التى كانت عليها قلاية البابا، طلب من البابا والمحيطين به أن يتكفلوا بإعداد قلاية تليق بـ«بابا الإسكندرية». ابتسم البابا وشكره على مشاعره الطيبة وأكد له راحته الشديدة فى هذا المكان البسيط. بينما آخرون يملكون مقرات مختلفة مُجهزة بأحدث الوسائل ولا يمكن أن يُطلق عليها قلاية!!
أيضًا فى عام ١٩٧٦ كان أحد الآباء الكهنة المشهود لهم بالتقوى والنشاط بالإسكندرية هو الأب بيشوى كامل «١٩٢٤- ١٩٧٩» قد أصيب بمرض السرطان، وقد أطلق عليه اسم «مرض الفردوس» لأن المريض بهذا المرض، بعد رحلة العمر، لا بد أن يستعد استعدادًا حقيقيًا للانطلاق من هذا العالم. نصحه المقربون له وكثير من شعبه أن يسافر للعلاج بالخارج، لكن لأمانته الصادقة مع الله ومع نفسه ومع شعبه قال لهم: «لو سافرت للعلاج بالخارج سيظن الناس أننى أخذت أموال الكنيسة، وهى أصلًا مخصصة للفقراء وذهبت للعلاج بها بالخارج!! وبذلك أكون قد أعثرت شعبى، وتخليت عن أبوتى». فقالوا له: «وما هو الحل؟»، فقال: «لوكان السفر للعلاج على نفقة الدولة فهذا يبعدنى عن شُبهة عثرة أولادى». وعلى الفور تم الاتصال بالأستاذ البرت برسوم سلامة، وزير الدولة لشئون المصريين بالخارج فى ذلك الوقت، الذى اتصل فورًا بوزير الصحة لإصدار قرار وزارى بسفر الأب بيشوى كامل إلى لندن للعلاج على نفقة الدولة. وفور وصول القرار الوزارى تم وضع صورة منه عند مدخل كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج بالإسكندرية ليطالعه أبناء الكنيسة. وفعلًا سافر للعلاج وعاد من سفره بعد فترة. لكن فى ٢١ مارس ١٩٧٩ رحل من الحياة الأرضية إلى الحياة الأفضل. كان فى فترة مرضه يحرص على زيارة المرضى بمرض السرطان، ويشد من أزرهم ويساندهم. وأذكر أنه فى فترة دراستى بالخارج كانت والدتى «١٩٢٤- ١٩٧٨» قد أصيبت بالمرض، فكان يحرص على زيارتها. وعند انتقالها أرسل لى خطابًا شخصيًا وأنا بكندا، بناء على طلب والدى وأخوتى، كتب فيه: «صدقنى يا مينا طوال الصلاة عليها يوم الأحد ١٢ فبراير ١٩٧٨ بالإسكندرية كنا نحس أننا أمام روح عملاقة خرجت متجملة بكل الفضائل».
كانت أيامًا جميلة افتقدناها بشدة ونتطلع إلى عودتها، لأنه من المحزن أن نشاهد الذين يهربون من ساحة القتال ويتركون أولادهم فى مرمى النيران. لكن من يعى تلك الكلمات؟ ومن يفهم أعمال هؤلاء الآباء العظام الأولين؟