رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو.. والاستراتيجية الإقليمية والدولية "11"


لتأكيد التغـيير الذى حدث فى بنيان المنطقة يمكن الإشارة إلى حالة الفوضى والاضطرابات التى نشأت بعـد الانتفاضات الكبرى وسقوط عدد من أنظمة الحكم فى دول «الربيع العـربى» التى تكاد تفاعلاتها لا تنقطع ولا تهدأ، وكأن هناك أطرافا تسـعى حثيثاً لتأجيج هذه الاضطرابات والفوضى كلما هدأت.

على مدى عـشرة أسابيع كاملة تناولت تأثير ثورة يونيو عـلى القوى الفاعـلة فى المعادلتين الإقليمية والدولـية الداخلة ضمن مكونات النسق الإقليمى للشرق الأوسط أو الخارجة عـنه، وحددت بعـض الإجراءات اللازمة لتحقيق استقرار مصر، وكان أول وأهم هذه الإجراءات هو ضرورة إدراك المصريين أبعـاد المؤامرة الدولية التى تحاك ضد دولتهم، والثانى هو أهمية إدراك الحكومة أنها ليست حكومة مؤقتة، بل هى حكومة تدير شئون مصر فى مرحلة بالغة الدقة والتعقيد، وعـليها أن تتخذ من القرارات والأفعال التى يمكن التأسيس عليها، أما الإجراء الثالث فهو أهمية صياغة سياسات متوازنة تتسق مع عـمق المتغـيرات التى أحدثتها الثورة خاصة التى تتعـلق بملفات الأمن والاقتصاد والعـدالة الاجتماعـية والعلاقات الدولية، ثم تناولت التهديدات التى تجابه الولايات المتحدة والغـرب من وجهة النظر الأمريكية، ومن ثم تهدد الأمن والسلام الدوليين من استخدام النظام السورى للسلاح الكيماوى، وأوضحت التهديدات الحقيقية التى تواجه أوباما على المستوى الشخصى وعلى الولايات المتحدة كدولة، والحقيقة فإن أخشى ما يخشاه أوباما هو أن يصبح القائد السياسى الأكثر فشلا فى قيادة أقوى دولة فى العالم، عـندما يفشل فى إعادة هيكلة الشرق الأوسط الكبير، وهو الهدف المرحلى المطلوب تنفيذه فى فترتى حكمه، وبالتالى فإنه لن يجد له مكانا بين رؤساء الولايات المتحدة العـظام الذين حققوا مجدا لها، أما التهديد الحقيقى الذى تخشاه الولايات المتحدة كدولة فيتمثل فى خوفها الشديد من انتقال مـركـز الهـيمـنة إلى روسيا التى تسعى حثيثا إلى استعادة مكانتها الدولية كقطب موازن، ورغـبتها الأكيدة فى مشاركتها النفوذ فى قيادة العالم، خاصة فى مـنـطـقـة الـشـرق الأوسط التى تُعـد من أكثر المناطق أهمية وحساسية، لذلك سأتناول اليوم تأثير الثورة على بنيان وسلوك وقيم الوحدات السياسية للعالم العـربى باعـتبارها المكـون الرئيسى للشرق الأوسط الكبير.

إذ يشير الواقع إلى أن المنطقة العـربية تتمتع بأهمية كبيرة، حيث يلعـب موقعها الجيوستراتيجى دورا مهما فى صياغة جميع استراتيجيات القوى العظمى والكبرى التى نشأت على مر العـصور، فهى منطقة التقاء اليابس بالماء، حيث يفصل برزخ السويس ومضيق باب المـندب يابسة أفريقيا عـن آسيـا، ويـفـصـل مضيق جـبـل طارق يابسة أفريقيا عن أوروبـا، وتسيـطر على البحريـن الأحمر والمتـوسط والخليج العـربى التى تُعـتبر مسطحات مائية مهمة من وجهة نظر الملاحة الدولية، وتشرف على المحيطين الهندى والأطلنطى ذواتى الأهمية الاستراتيجية الكبيرة حيث يـؤديان إلى قـارات العالم القـديم والجديد، ويلعـب بترولهما بضخامة إنتاجه واحتياطياته ورخص تكاليف استخراجه وفوائضه المالية الكبيرة دورا رئيسيا فى صياغـة اقتصاديـات القوى العالمية والإقليمية، واتساقا مع هذه الأهمية، فقد أصبحت المنطـقة العـربية عـرضة للتهديدات التى واجهتها على مر تاريخها كرها أو طوعاً، خاصة فى غـياب مفهوم الأمن الجماعى العـربى وعـدم إدراك التغـيير الذى أحدثته الولايات المتحدة فى بنيان المنطقة، تمهيدا لإعادة هيكلة الشرق الأوسط وتشكيله تحت مصطلح «الشرق الأوسط الكبير» حتى يتسق مع أهدافها ومصالحها وفقاً لرؤية بريجنسكى مستشار الأمن القومى فى إدارة كارتر، والتى عـبرت عـنها كونداليزا رايس فى 2004 بالفوضى الخلاقة، وتتلخص هذه الرؤية فى (أن نفوذ الولايات المتحدة سينحسر انحسارا كبيرا بعـد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، ولتعـويض هذا الانحسار يتعـين أن تسود دول المنطقة العـربية فوضى عارمة تقودها إلى اضطرابات لا يستطيع قادتها إدراك أبعادها الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعـية ولا أن تعـيها شعـوبها، ولما كانت هذه الاضطرابات ستشكل عـبئا اقتصاديا عـلى الولايات المتحدة، فإنه يتعـين تعـظيم العامل الإقليمى الذى تلعـب فيه القوى الإقليمية غير العـربية الدور الأكبر «إسرائيل – تركيا – إيـران – إثيوبيا» وتقسيم الإقليم إلى مناطق نفوذ تسيطر عليها هذه القوى بالوكالة عـن الولايات المتحدة، عـلى أن تتحمل هذه القوى الأعـباء التى تترتب عـلى ذلك)، وبالتالى يخطئ من يظن أن الولايات المتحدة أو إسرائيل قد توجه ضربة عـسكرية إلى إيـران، حيث مخطط لها أن تلعـب دورا متعاظما فى المنطقة للسيطرة عليها بالوكالة مع تركيا وإسرائيل.

ولتأكيد هذا التغـيير الذى حدث فى بنيان المنطقة يمكن الإشارة إلى حالة الفوضى والاضطرابات التى نشأت بعـد الانتفاضات الكبرى وسقوط عدد من أنظمة الحكم فى دول «الربيع العـربى» التى تكاد تفاعلاتها لا تنقطع ولا تهدأ، وكأن هناك أطرافا تسـعى حثيثاً لتأجيج هذه الاضطرابات والفوضى كلما هدأت حتى تنعـدم فرص إحداث الاستقرار السياسى اللازم لبناء مؤسسات هذه الدول وانطلاقها، وقد زادت حدة تفاعلات الاضطرابات بعـد تدخل القوى العـظمى والكبرى بعـد أحداث ثورة يونيو فى مصر التى أسقطت المشروع الأمريكى والمشروعات القومية فى المنطقة (مشروع العثمانيين الجدد، ومشروع إحياء الإمبراطورية الفارسية تحت الراية الشيعـية) كما زادت حدة التفاعلات بعـد اتهام النظام السورى باستخدام السلاح الكيماوى ضد شعـبه، فتعـرضت دول المنطقة العـربية بأسرها إلى حالة جديدة من الاستقطاب والتبعـية نتيجة لتعارض أهداف القوى العـظمى والكبرى وتناقض استراتيجياتها فى الشرق الأوسط القديم أو الجديد أو الكبير أو الأوسط..... إلخ، فالشرق يكون أدنى أو أوسط أو أقصى أو قديما أو جديدا نسبة للقوى الخارجية، ويضيق ويتسع وفقا لأهدافها ومصالحها، خاصة بعـد إستبدال مصطلح الاستعـمار بمصطلح الاستقطاب والتبعـية، لذلك بـدا مصطلح الشرق الأوسط كأنه استعـمارى فى نشأته جيوبوليتيكى فى استخداماته، ولذلك تسعـى الولايات المتحدة إلى إعادة هيكلة الشرق الأوسط التى جعـلت حدوده تتطابق مع حدود العالم الإسلامى على أساس تركيبة المجتمعـات العـرقية والدينية والطائفية مع مراعاة الأقليات حسبما تقتضى المصلحة الأمريكية، تحت دعـوى إحداث الاستقرار اللازم لصيانة الأمن والسلم الدوليين، وبالتالى تضع الولايات المتحدة فى اعـتبارها أن الحدود الحالية التى رسمها الاستعـمار هى حدود مؤقتة، ولابد من إعادة ترسيمها بما يتماشى مع تركيبة الشعـوب حتى تصير نهائية

وصفوة القول فأن القوى العـظمى والكبرى حرصت عـلى ألا يكون مصطلح الشرق الأوسط مرادفا للمنطقة العـربية، ولا بد أن تتجاوز مكوناته مكوناتها، فتعـمدت إضافة قوى غير عـربية حتى تكون نزيفا مزمنا لثرواتها وتحول دون وحدتها وتقدمها، فجاءت ثورة 30 يونيو حيث قلبت الموازين، فلا هى أبقت عـلى المشروع الأمريكى لإعادة هيكلة الإقليم، ولا تركت العـثمانيين الجدد يؤسسون لمشروعهم، ولا سمحت بإحياء الإمبراطورية الفارسية تحت الراية الشيعـية، وهو ما يعـبَر عـن مكانة ووزن مصر كمحور ارتكاز لبناء أى استراتيجية فى المنطقة، ويعـبَر أيضا عـن قدرتها على التأثير فى تفاعلات الشرق الأوسط القديم أو الجديد أو حتى الشرق الأوسط الكبير، فوضعت اللبنة الأساسية لبناء نظام عـربى لوطن عربى، وسأتناول الأسبـوع القادم بإذن الله تأثير الثورة فى البُعـد السلوكى لوحدات هذا النظام.

■ أستاذ العلوم السياسية ــ جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.