رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فن إحياء الموتى


اقتربت منه، راعها الحزن الذى يأكل وجهه، دون أن تتحدث مدت يدها، رأت قلبه فى يده يحفر له بجوار الورود البلدية والصبار، مدت يدها أمسكت بالقلب، كان به بقية من حياة، نبضه يُحس ولا يُسمع، وتجمعات دم متجلط فى شريانه تعيق تنفسه، خلعت طرحتها الحريرية لفته بها وأخذت تربت عليه، رفعت بصرها إلى «فؤاد الكاتب»:

- بتعمل إيه؟

- أدفنه.

- ليه؟

- الدم الفاسد ملاه، ومش محتاجه.

- ممكن أرجعه للحياة.

- ده فسد منذ زمن.

- وإذا نجحت؟

- احتفظى به لنفسك.

تركها ومضى وقلبه بين يديها مختنقًا، أخذت تربت على القلب الذى يذوى بين يديها، تتحسسه، وبكل حواسها تلمسه وتضغط على الكتل السوداء المتخثرة من الدم، بيدها اليمنى تعطيه من طاقتها، وتحفز فيه الحياة التى تتماوت. بعد فترة وتحت تأثير حرارة يديها، اندفعت قطعة سوداء لزجة، فبدأت تربت عليه بيدها اليسرى. بدأ نبض القلب يزداد، غسلته بالماء المعطر بالنعناع، وظلت تحكى له حكاياتها، ليالٍ وهى تحكى عن هواها الذى لا تدرى له مآل، والقلب يستجيب لها، حتى أنه بكى بين يديها، لم يستطع القلب أن يبادلها الحكايات لكنه بادلها الدموع، وكلما انهمرت دموعه اندفعت الكتل المتخثرة التى تميته، ومن شدة البكاء والنهنهة اندفعت أكبر كتلة من الدم الأسود، واسترد القلب عافيته، وبعد أسبوع بقيت قطعة صغيرة محشورة بين الأورطى والأذين الأيمن، ولما رأت «البيه» أمام صباراته وورداته، التى سبق لها أن روتهما مرتين، مدت له يدها بقلبه، رفض:

– قلت لك مش عايزه.

حاولت إقناعه: ده قلب جديد.

تردد البيه، لم يصدق أن فلاحة صغيرة يمكنها أن تتعامل مع القلوب. تحسس قلبه المعطر بالنعناع الأخضر وشكرها، وأخرج من حافظته كى يكافئها، وقبل أن يقول هذه مكافأة لك، فوجئ بقلبه ينقبض، فظنه يتوجع من البرد، فأسرع ووضعه فى مكانه بين الرئتين ومائلًا قليلًا للرئة اليسرى، ولم يلاحظ البيه أن بصمات «حسنة» كانت قد تركت آثارها على جدرانه الخارجية، ولما وصل قلبه إلى القصر محاطًا بقفصه الصدرى، تنبه القلب إلى حالة اليتم التى صار عليها، فأخذ يرفس ويحرن ويصرخ مما أفزع البيه وجعله يخرج كى يتنفس قليلًا.

كل ما يحدث للبيه الآن لم يكن جزءًا من حساباته، فى البدء كان قلبه مريضًا يؤلمه، الآن يعانى من نشاطه الزائد واضطرابه. ولأن الرجال دائمًا ما يفسرون الأمور على نحو خاطئ، فقد اعتقد أن هذا الاضطراب مفاده رغباته وأعضائه السفلية، فاستدعى السائق وأمره بتجهيز العربة، وسافر إلى القاهرة ليقابل إحدى صديقاته. لكن الأمر كان أسوأ مما يتصور، وفشل فشلًا ذريعًا، سيكون على مائة رجل من «آل الكاتب» أن يستعرضوا أطوال أعضائهم، وقدراتهم الجنسية فى قلب ميدان التحرير، حتى تمحى الوصمة التى لطخت العائلة، ونشرتها مجرد مغنية دون أى درجة، لكنها خبيرة فى أنواع الرجال بما يجعلها مرجعية فى تقديرهم وتثمينهم فى هذا المضمار، وليس هذا بالشىء النادر فدائمًا فى كل العائلات تجد مَن يلطخ اسمها بشىء من العار، وهذه أشياء لا تدوّن سوى فى التاريخ السرى للعائلات الذى تحفظه المومسات والعاهرات الحاملات للخطيئة.

أراد البيه أن ينسى نكبته، فتذكر وجه الفلاحة التى طبعت بصماتها على جدران قلبه، وكان عليه لكى تدخل قلبه أن يفتح لها البوابة لكنه كان مترددًا، ولما أعيته الحيلة تذكر واجبه نحو أسلافه فاعتزم أن يزورهم، ويروى ورداته وصباراته، وعندما مد يده ليسلم عليها، وضمت يدها يده، كادت تصرخ، احتوت كفها الصغير يد دافئة حانية كرحم أم، غاصت فى أعماقها وفى نسيجها، وستظل هذه الكف مأوى «حُسنة الفقى» الذى لن يطردها أبدًا، سيظل سكنها وسكناها فى خطوط هذا الكف، يحقق رؤاها ويفسر أحلامها، رغم أن «البيه» لم يكن ينوى ذلك، لكنها الحياة أو الرواية التى ستجعلها بعد أيام فى طريقها لبيتها الجديد، تصحبها قلة من النساء، وأبوها إلى جانبها وزوجها على الجانب الآخر.. ترقب البيت الكبير معزولًا فى حديقته الواسعة التى تقارب الفدادين الأربعة، يحاصره سور من الحديد فى الخارج، وفى الداخل تحيط به أشجار الكافور والنخيل والصفصاف، كالربات تحميه من عيون الآخرين، ولا يبدو من السرايا سوى ما تظهره الأشجار التى تتباعد فروعها فى بعض الأنحاء، يحمل البيت لونًا طوبيًا من حجارته، وبابه الكبير لونه بنى وكل شبابيكه المستطيلة لها نفس اللون.

من رواية «استقالة ملك الموت»