رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو.. والاستراتيجية الإقليمية والدولية ـ 8


هل يدرك السيد أردوغان أن فقدان الهوية التركية سيظل مرهونا بحسن الجوار وإقامة علاقات طيبة مع الآخرين خاصة الدول العـربية، إذ ستظل هوية تركيا مفقودة ما لم يدرك السيد أردوغان ذلك .. والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.

تناولت فى المقالات السابقة تأثير ثورة 30 يونيو فى المعادلتين الإقليمية والدولـية، وقد أثارت الثورة جدلا حول ما إذا كانت تندرج تحت مفهوم الثورة الشعـبية أم الانقلاب العـسكرى، وتم التركيز على بعـض الإجراءات التى ينبغى اتخاذها لتحقيق الاستقرار فى ظل الصمت المتعـمد إزاء الإرهاب الدولى ضد مصر، وخلصت إلى أن أول هذه الإجراءت تكمن فى ضرورة إدراك الشعـب المصرى لأبعاد المؤامرة الدولية التى تتعـرض لها الدولة، ثم ضرورة وأهمية إدراك الحكومة بأنها ليست حكومة مؤقتة أو انتقالية أو حكومة تسيير أعمال، بل هى حكومة تأسيسية تدير شئون الدولة فى مرحلة بالغة الحساسية والدقة والتعـقـيـد، وعـليها أن تتخذ من القرارات والإجراءات الحاسمة التى يمكن البناء عـليها مستقبلا، وأن تبدأ فى صياغة سياسات داخلية وخارجية متوازنة تتسق مع عـمق المتغـيرات التى أحدثتها هذه الثورة، خاصة تلك التى تتعـلق بملفات الأمن والاقتصاد والعلاقات الخارجية، وقد انتهى المقال السابق بسؤال فرض نفسه، وهـو لماذا تُصر الولايات المتحدة على تفعـيل التعاون بين تركيا وإسرائيل؟ وهو ما سنتناوله فى مقال اليوم.

إذ يشير الواقع إلى أن التعاون بين تركيا وإسرائيل لم ينقطع يوما ما، خاصة فى المجالات الأمنية والعسكرية حتى فى أحرج فترات تأجج توتر العلاقات الذى افـتعـله أردوغان فأجاده، إذ يعـتبر انسحابه من مؤتمر «دافوس» خير شاهد على ذلك، عـندما امتنع رئيس الجلسة عن منحه الوقت الكافى للرد على خطاب رئيس إسرائيل فانسحب وسط تصفيق الحاضرين، وعـندما كشف أوباما عن المكالمة التليفونية التى قدم فيها نتنياهو اعـتذار إسرائيل لأردوغان عـن مقـتـل تسعة أتراك كانوا على متن السفينة «مرمرة» التركية، وأبلغـه استعـداد إسرائيل لتقديم تعـويضات لأسر الضحايا، قبل أردوغان هذا الاعـتـذار على الفور بعـد أن أظهر تشددا كبيرا من قبل، وتعـمد الإعلام الأمريكى والتركى والجزيرة إبراز هذين الحدثين حتى أصبحا من أهم القضايا التى طرحت على الساحة الدولية، والواقع فقد استطاع أردوغان توظيف هذين الحدثين بمهارة فائقة، حيث استُقبل بعـد الأزمة الأولى استقـبال الفاتحين، وأصبح فى الأزمة الثانية غازيـا منتصرا فصار بطلا قوميا ودغـدغ مشاعـر مؤيديه، والآن يدافع عـن الذين قتلوا فى مجزرة «رابعة» بواسطة الانقلابيين فى مصر بإشارة مسرحية بأصابع يده الأربعة فصارت شعارا لفض اعـتصام رابعة العدوية، وجدير بالملاحظة أن أردوغان يلجأ إلى افتعال مثل هذه الأزمات عندما تراجعـت شعـبية حزبه أمام شعـبية الأحزاب الأخرى خاصة حزب «السعـادة الإسلامى» لكى يستعـيدها حينما اقتربت الانتخابات «مارس 2009 ومارس 2014».

وعلى أى حال فقـد عـملت الولايات المتحدة عـلى توسيع مجالات التعـاون الأمنى والعسكرى مع تركيا، فسمحت لها بإنتاج الطائرة «C F16» حتى أصبحت تركيا هى الدولة التى تمتلك أكبر عـدد منها فى العالم بعـد الولايات المتحدة، كما سمحت لهم بتصدير فائض الإنتاج للدول الحليفة والصديقة، ثم أمدتها بالأجهزة والمعـدات اللازمة لصيانة طائرات هذه الدول فى مصانعها، شريطة أن تقوم إسرائيل بتصنيع المعـدات الإلكترونية المعـقـدة Avionics لهذه الطائرات حتى تضمن استمرار التعاون التركى الإسرائيلى، كما وضعـت الولايات المتحدة خطط تطوير القوات المسلحة التركية باعـتبارها القوة الثانية بعـد الولايات المتحدة فى حلـف الناتو، وربطت هذه الخطط بتكنولوجيا التصنيع الإسرائيلى بحكم التراخيص الممنوحة لها من الشركات الأمريكية لوكهيد وبوينج، خاصة طائرات نظام الإنذار والسيطرة المحمول جوا AWACS الإواكس Air Born Warning And Control System التى عـقـدت تركيا صفقة ضخمة منها، إذ يعـتبر هذا النظام مهماً جدا لمنظومة الأمن القومى التركى، حيث يرتبط باستكمال الشبكة الإلكترونية المضادة للصواريخ البالستية الموجهة ضد الـقـواعـد الجـويـة الرئيسية «كورتشك ـ إنجرليك» المجهزة لاستقبال جميع أنواع طائرات حلف الناتو، واللتين يتم استخدامهما بواسطة قـوات الحلـف فى المناورات السنوية العـروفة باسم «نسر الأناضول» والتى تشارك فيها إسرائيل بصفة أساسية، وهو ما يعـنى من الزاوية العسكرية أن إسرائيل تتمتع بما يتمتع به حلف الناتو من حيث استخدامات القواعد الجوية التركية، أما من حيث الزاوية الأمنية فإنه يتعـين عـلى سوريا عـندما تواجه إسرائيل فى الجنوب أيضا أن تواجه تركيا فى الشمال، كما يشمل التعاون العسكرى بينهما كل مجالات التصنيع الحربى لكل ما تنتجه الدولتان من معـدات قتال خاصة دبابات القتال الرئيسية، وهو الأمر الذى يؤدى إلى إحداث التكامل بينهما، ويعـمل على ترسيخ قاعـدة الصناعات الحربية التى يمكنها تلبية الجزء الأعـظم من احتياجاتهما، فهل سيحقق هذا التعاون الغاية الاستراتيجية التركية؟

للإجابة عن هذا التساؤل ينبغى أولا توضيح الإشكاليات الرئيسية التى ظلت تتحكم فى السياسة التركية لعـقـود طويلة وما زالت تعانى منها كثيرا، الأولى هى إشكالية الاختيار بين أن تكون الدولة الأخيرة الأكثر تخلفا فى النسق الإقليمى الأوروبى ولا تستطيع منتجاتها المنافسة فى أسواقه، أو أن تكون الدولة الأولى الأكثر تقدما فى النسق الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط ، ويمكن إغـراق أسواقه بالمنتجات التركية ومنافسة منتجاته المحلية، والإشكالية الثانية هى التناقض الحاد فى معادلتها الاستراتيجية، فبينما تعـمل الولايات المتحدة عـلى تعـظيم القدرات العـسكرية التركية بإنشاء قاعـدة صناعات حربية وطيدة يمكنها تلبية مطالب واحتياجات حلف الأطلنطى والقوات المسلحة التركية، وتتحمل أعـباء التزاماتها نحو حلفائها الأوروبيين، إلاَ أن الاتحاد الأوروبى يرفض قبولها كعـضو طبيعى فى الاتحاد، وتدور الإشكالية الثالثة حول كثرة التناقضات الناجمة عـن فقدان هويتها، فبينما يتمسك نظام الحكم فيها بمبادئ الشريعة الإسلامية، إلأ إنها لا تستطيع الانسلاخ من عـلمانيتها المفرطة، تبغى تحالفا مع الغـرب لكنها تتوجه إلى الشرق، تحاكى حضارة الغـرب لكنها لا تستطيع أن تتخلى عـن ثقافة الشرق، يشير الواقع إلى أنه بالرغم من الإدراك التركى الكامل للمتغـيرات الراهـنة وتأثيراتها المستقبلية، إلاَ أنها لم تستوعـب الأسباب الحقيقية التى تحول دون انضمامها للاتحاد الأوروبى، إذ يكمن السبب الأول فى الاختلاف الجذرى بين نسقها القيمى والنسق القيمى لدول غرب أوروبا عـرقيا ودينيا وثقافيا، والسبب الثانى هو اختلاف نسقها الاجتماعـى عن النسق الاجتماعى الأوروبى خاصة فيما يتعلق بمعدلات النمو السكانى، إذ يبلغ معدل النمو فى تركيا 2 % وهو يعادل عشرة أضعاف النمو السكانى فى غرب أوروبا 0,2%، وبالتالى ستكون الدول الأعـضاء مضطرة لاستيعاب فائض العـمالة التركى الضخم فى حالة انضمامها للاتحاد، مما قد يؤدى إلى اختلال الأنساق الاجتماعية فى هذه الدول، وبالرغم من ذلك فـقـد سعـت تركيا إلى إحداث بعـض التحولات فى نسقيها القيمى والاجتماعى حتى يتسق مع الغرب من أجل الانضمام إلى الاتحاد، فاعتنقت العـلمانية المفرطة دون تعـقل أو انضباط، ولم تفرق بين التغـريب والتحديث، حتى بدت وكأنها فقدت هويتها فلا هى شرقية ولا هى غربية، ولا هى علمانية ولا هى إسلامية.

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.