رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسلاميات كاتب مسيحى «26»

محمد الباز يكتب: المصارع.. سر عمر بن الخطاب الذي يكشفه نظمي لوقا

محمد الباز
محمد الباز

كان عمر مصارعًا مرموقًا لا يثبت له خصم لكنه لم يستغل قدرته الخارقة فى الإرهاب
كان شديد الاعتداد بنفسه وبرجولته لكنه لم يكن يعتد كثيرًا بالنساء وإن رغب فيهن
تصدى للرسول وصحابته قبل إسلامه بدافع الحفاظ على شرف القبيلة



يحتل كتاب «عمر.. البطل والمثل والرجل» مساحة خاصة فى إسلاميات نظمى لوقا.
بدأ هو بسؤال نفسه: لماذا كتاب جديد عن عمر بن الخطاب؟
وكانت الإجابة كما قالها هو: من حق أى قارئ عربى أن يتساءل: ولماذا يكتب نظمى لوقا كتابًا عن عمر بن الخطاب، وقد سبق إلى الكتابة عنه فى هذا العصر عالمان شامخان من أعلام الفكر والأدب، هما «عباس العقاد وحسين هيكل»؟ وهل تركا قولًا لقائل؟
يشير نظمى إلى كتاب العقاد «عبقرية عمر»، وكتاب محمد حسين هيكل «الفاروق عمر».. ولا أدرى لماذا تجاهل نظمى إسهام طه حسين، الذى جمع أبا بكر مع عمر بن الخطاب فى كتابه «الشيخان».. لكن على أى حال هذه نقطة ليست جوهرية.
يواصل نظمى تبريره أو لنقل تفسيره، يقول: هذا سؤال له وجاهته، والإجابة عنه تقتضى نظرة هادئة إلى علاقة أى كاتب بالموضوع الذى يتناوله، ومجمل هذه العلاقة أنها علاقة فكر لا منهج معين، ونفس لها مزاج معين، ومن ثم له رؤية معينة للموضوع، ولقد كان ما يكتبه هيكل أقرب إلى السيرة التى تتعقب الأحداث والأعمال بالرصد والتسجيل والتحليل، وتنتهى إلى تقييم شامل متوازن.
أما العقاد فلم يفارقه حس الشاعر وحماسة العاشق، وهو يعمل فكره فى تصوير شخصية عمر وتفسيرها، فلم يفارقنى الإحساس بأننى أمام موكب ملكى رائع أقامه العقاد لحبيبه عمر، حشد له طاقته المذهلة فى المنطق والبلاغة وسحر البيان فجاءت عباراته أشبه بعربة مذهبة تجرها الجياد المطهمة، ويحف بها الفرسان الدارعون الصناديد.
ويتساءل نظمى: أفأكتب عن عمر سيرة أخرى، أبارى بها الدكتور هيكل، ليس هذا اتجاهى ولا أرب لى فيه، ولا حاجة إليه أيضًا، ففى السيرة العمرية التى كتبها الدكتور هيكل كفاية لا أحس حاجة معها إلى مزيد، وليست الزيادة عليها ميسرة لمن شاء، فالصمت إذن أولَى.
ويعيد على نفسه السؤال: أفأكتب قصيدة نثرية أخرى فى تمجيد عمر بن الخطاب كتلك التى جاء بها العقاد، فجاءت معجزة فى الضخامة والسحر والشعور الدافق المتقد؟
يعرف نظمى حجمه بالنسبة للعقاد، فيقول: واغوثاه.. من أين يأتى لى شىء كهذا لو أردته، وهو شىء لا أرب لى فيه، ولا هو من مقصدى على كل حال.
يمكنك أن تسأل أنت نظمى الآن عما يريده من عمر إذن؟ وما الذى سيكتبه عنه.
يقول: مرادى منه وبه أن تكون لى رؤيتى الخاصة لعمر بن الخطاب؟
وأتركه يحدد هو ملامح هذه الرؤية.
فهى رؤية إنسانية محضة، مدنية محضة، تتناول عمر من حيث هو بشر يتمثل فيه مستوى رفيع من الصفات الإنسانية، تجعل منه مثلًا رفيعًا لكل من يتطلع إلى المثل الرفيعة فى السلوك والنهوض بالأعباء الجسام.
رؤية تنحصر فى الوصول إلى عمر الإنسان الذى تعم فائدة التعرف إليه البشر جميعًا.
فهى ليست رؤية دينية يعنيها ما قد ترتفع بعمر عن المستوى البشرى، وما قد ينسب إليه من صفات ووسائل خارقة لا يتيسر الإنصاف بها لكل إنسان.
الكرامة فى هذه الرؤية هى كرامة البطل، وتفوق سلوكه لا مصدر له إلا ذلك التكوين البطولى، الذى لا يستمد مكانته من القدرات الممتنعة على سائر الناس، بل من الاحتشاد الإنسانى المحض للمستويات التى يلتزم بها من تلقاء نفسه، ويندب لها نفسه قيامًا بحق النخوة والمروءة ووسائله لتحقيقها هى- على الخصوص- وسائل إنسانية متاحة لسائر الناس، إن هم رضوا أنفسهم على تكاليف الأخذ بها، ولا ينفرد بوسائل اختص بها دون سواه، لأنه بذلك الانفراد بالوسائل والموارد لا يكون المثل ولا يكون الرجل.. بل المعجزة.
ويؤكد نظمى على ما قدمه عن عمر: ليس لأحد أن يتوقع منّى سيرة لعمر، ولا قصيدة انبهار به، بل دراسة لسمات البطولة عمومًا من خلال صورة عمر ومواقفه، وكيف وجهت فطرة البطولة فى ذلك البطل المطبوع مراحل حياته، وكيف شكلت وكيّفت أفعاله وتصرفاته؟
إن عمر عند نظمى لوقا بطل مطبوع على البطولة، ولكنه أيضًا صاحب مزاج نفسى خاص يمارس به بطولاته، وهنا يجد المتأمل المجال واسعًا لتمييز ما يصلح أن يكون من تصرفاته مثلًا لكل الناس، لأنه ليس تعبيرًا عن مزاج تفرد به عمر الرجل فحسب، بل هو تعبير عن تجاوزه ذاته إلى النمط الموضوعى الذى يستوى فى الانتفاع به، والإخلاد إلى سائر العقلاء على اختلاف دياناتهم وأمزجتهم النفسية.
تَرى عند نظمى عمر الرجل فردًا، له ذاتيته الخاصة كسائر الناس.
أما عمر البطل، فهو احتشاد لهمة ترتفع فوق الذاتية المحدودة لتجسيد مبدأ موضوعى، يسمو فوق الاعتبارات الذاتية الخاصة.
وسمة البطل تتجاوز ذاتيته ومزاجه، فيكون مثلًا لكل بنى البشر، تلغى فى مواجهته الحوائل والحواجز الذاتية والفئوية.
يضع نظمى لوقا يده على مشاهدة متفرقة من حياة عمر، وهى المشاهد التى تضع أيدينا على ما أراده الفيلسوف المسيحى من الخليفة الثانى بتجرد شديد وتام وكامل.
يسأل نظمى: أىّ الفتيان كان عمر؟
ويجيب: إن أى فتى يشترك فى تحديد شخصيته تكوينان أو تأثيران، أحدهما تكوينه الجسدى وما ركب فيه من قدرات وميول فطرية، والآخر تكوينه الاجتماعى، وما أثرت به ظروفه الاجتماعية فى تشكيل هذه الطينة الفطرية لتقوية جانب منها، وكف جانب آخر أو مصادرته أو قمعه بعض الشىء وكل الشىء، فيتمخض هذا التفاعل بين ما هو فطرى وما هو مكتسب عن كيان محدد السمات.
أما عن تكوينه الجسمانى، فقد كان عمر مفرط الطول، فاره البدن، قوى البنية قوة تفوق المألوف وتلفت النظر كما يلفته طوله البائن، حتى قيل إنه كان يمشى بين أقرانه فكأنه راكب وهم مشاة، وفيه عنف وخشونة واندفاع إلى الغضب وسرعة بديهة ونفاذ فراسة، ولطول ساقيه وقوته الحيوية والعصبية كان واسع الخطو، لا يلاحقه السائرون معه، فلا تكون لهم حيلة إلا السير فى أثره كأنهم فى ركابه.
وأما البيئة التى شبّ عليها، فهو فتى عربى قرشى، نشأ فى مكة، التى كانت تضرب لها أكباد الإبل فى شتى أنحاء الجزيرة فى مواسم الحج والتجارة، ولكن قريشًا فى ذلك العهد كانت بطونًا وعشائر متباينة ليست سواسية فى القوة والجاه والشرف والثراء.
فمن أى البطون كان عمر؟
كان من بنى عدى بن كعب، وبنو عدى هؤلاء من البطون ذات المكانة والسمعة فى قريش، ولكنهم لا يتولون شيئًا من المناصب الكبرى فى القبيلة الأم، فقد استأثر بها من السقاية والسدانة واللواء، ومنع إلى ذلك بنو هاشم وبنو أمية وبنو مخزوم، ثم هم لا يملكون ما يعوضهم عن المناصب العليا ثروة طائلة، ولكنهم مع هذا من ذوى الوجاهة فى الصف الثانى إن جاز هذا التعبير الحديث، وهو ما كان يزيد من حساسيتهم وشعورهم بالغضاضة والغبن والبخس.
ومن شأن هذه المشاعر أن تؤجج فى أصحابها حدة الطبع والأنفة والحميّة، ولكن قلة ما تحت أيديهم من الحول والطول والعدد والعتاد جنح بهم إلى التحامل على النفس وإيثار صيانة المكانة المهددة ما وسعهم ذلك بالوقار والحكمة والرزانة.
ولذلك كان القوم من قريش، رجال من قوم عمر، لمجالس التحكيم ووفود المفاوضة والسفارة، وهى مهام تضفى عليهم ما يعوضهم عن الحرمان من المناصب الكبرى فى الدين والحرب والاقتصاد، صحيح أنها مكانة فى الصف الثانى، لكن أصحابها يقبلونها على مضض، ويرحب أى فرد منهم بالمجال الذى يتيح له إبراز كفاءته أو قدرته الشخصية ما وجد إلى ذلك سبيلًا، ليخترق حاجز الفاقة والخمول النسبى الذى ضربته المنافسات القبلية على رهطه، ولينجو من ذلك التوتر الحاد بين الكبرياء والبخس.
وهنا يأتى سؤال حول تفاعل تكوين عمر البدنى والنفسى مع هذه البيئة الاجتماعية والنفسية؟
فالفتى عملاق خارق القوى، بما يجعل إحساسه مضاعفًا بوطأة التوتر بين الكبرياء والبخس، فلا عجب أن يجنح تكوينه الخارق للعادة هذا إلى أن يجد متنفسًا لهذا التوتر الذى يضغط على نفسه، بعض هذا المتنفس يتجه له المجتمع القرشى الجاهلى وهو مهام السفارة والتحكيم ولكنه لا يتيحه له بصفة خاصة، بل لأى فتى فى مثل نسبه من عدى، ومن الطبيعى وهو متنفس عام غير خاص ألا يرضى كل الإرضاء فتى شديد التفرد فى صفاته مثل عمر.
وعليه فقد ذهب عمر ينشد لنفسه المتنفس الفردى الذى لا يتاح لأى فرد آخر من قومه، وهو حلبات المصارعة ومبارياتها فغدا مصارعًا مرموقًا متفوقًا لا يثبت له خصم، ولو كان صاحب هذه القوة الخارقة التى لا يقف أمامها أحد خاليًا من الفطرة الخلقية لسلك المسلك الذى يغرى الكثيرين من أقوياء البنية، فغدا مُعتديًا يستثمر قوته الخارقة فى الإرهاب وابتزاز الإتاوات أو لغدا قاطعَ طريق مثل كثيرين من صعاليك العرب، ولكنه لم يمارس قوته إلا فى مباريات المصارعة العلنية التى يشهدها الناس، وليس فيها أى لون من ألوان الغيلة أو الغدر أو الاستغلال الشخصى الرخيص.
كانت لدى عمر فطرة خلقية، وهى الفطرة التى يكون لها انتماء وولاء لقيمة عليا تتجاوز الذات، أى تعلو بسلوك صاحبها عن الانصراف إلى لذاته ونوازعه الذاتية التى لها نظائر عن سائر الحيوان، بل تجعل له حدودًا لا يتعداها ولاء لهذه القيمة.
لكن ماذا كانت هذه القيمة؟
يجيب نظمى: لم يكن زمان فتوة عمر وشبابه زمان حرب وكر وفر، فلم تكن هناك إذن قضية عليا يوجه إليها طبعه فى ساحات النضال، فلم تبق أمامه إلا المتنافسات المتاحة فى مجال السلم، وهى الإسراف فى الخمر، أو الإغراق فى إيتان النساء، وكلاهما مصرف قوى لطاقة العملاق الجارفة، فهى أيضًا كالمصارعة، مباريات فى الشراب ومصاحبة الغوانى والتنافس عليهن.
كان عمر إذن بطلًا مطبوعًا، ولكنه لا يجد القضية التى تتجلى فيها روح البطولة، من الولاء ونصرة القيمة العليا، فذلك الفتى الجاهلى فى زمن السلم، والأمن يشعر بأن شرف القبيلة مصان لا يتهدده خطر من أى نوع، فالقبائل كلها تبجل قريشًا، وهو لا يعرف قيمة أعلى من شرف القبيلة يكون لها ولاؤه وانتماؤه، ويمارس فى إعلائها روح بطولته.
إلى جانب ذلك كان عمر بن الخطاب شديد الاعتداد بنفسه، وكان اعتداده بنفسه وبرجولته مقترنًا بأنه لا يعتد كثيرًا بالنساء وإن رغب فيهن، فهن فى إحساسه أدوات أو دمى أو وسائل قد تكون لذة، وقد تكون نافعة، وقد تكون إليها حاجة، ولكنها ليست ذات بال.
ويبرر نظمى لوقا هذه النظرة الدونية التى كان يبديها عمر للنساء، بقوله: ولم يكن لعمر فى هذا شذوذ خارج عن المألوف بين رجال زمنه، ولا كان ذلك علامة على قصور أو جمود فى التصور والتفكير، فهذا هو المعلم الأول أرسطو لا يجعل للمرأة- سامحه الله- أكثر مما جعل لها الرجال فى الجاهلية عمومًا ولاسيما عمر.
ثم إن هناك أمرا آخر، وهو أن تكوين عمر الرجل لا يسمح له بأن يكون عاشقًا متيمًا هائمًا، فهو لاعتداده بنفسه يستخدم المرأة ولكنه لا يترك لها زمام نفسه، ومقاليد قلبه، ولكنه قادر على الود، لمن يودهم ويقدرهم من الرجال، إلا أنه ود من يملك مشاعره ورشده وأحكامه تمام الامتلاك، فليس لإنسان مهما أحبه عمر أن ينسيه يقظة ذهنه وصدقه ونزاهته فى وزن الأمور.
ولأن عمر كان يدافع عن شرف القبيلة - كما يرى نظمى ويعتقد- فقد تصدى للرسول محمد ولصحابته عندما خرج يدعو قريشًا أن ينبذوا عبادة الأوثان ويعبدوا إلهًا واحدًا.
كانت هذه قضية شاحذة لعمر ولروح البطولة فيه، كى ينبرى للدفاع عن شرف القبيلة التى سفه محمد أحلامها وحقر آلهتها، فكان شرف القبيلة هو القضية الكبرى أو القيمة العليا التى اعتقد عمر أنه لا قيمة تعلو عليها، فهى أجدر بأن توهب لها كل حميته وروح بطولته، لأنها باتت فى خطر واضح وصريح مثل خطر الحريق، هكذا كان اعتقاده، وهو اعتقاد أشبه بالفجر الكاذب الذى يحسبه الساهر الفجر الصادق، وهو ليس كذلك.
وكان لا بد للفجر الصادق أن يأتى.
لقد أسلم عمر فى لحظة، عندما سمع القرآن يتلى فى بيت أخته.
هكذا يتخيل كثيرون، وهكذا يريد البعض أن نصدق، أن إسلام عمر كان بمحض الصدفة.
يرى نظمى لوقا أن هذه الرواية توهم أن ميل عمر إلى الإسلام كان من تأثير اللحظة، وهو فى الحقيقة أمر لا يسوغ فهمه على هذا الوجه السطحى، بل جاءت فى هذه اللحظة بمثابة الذروة لتأثيرات تراكمية تتابعت على المدى الطويل، فى سريرة ذلك العملاق النافذ البصيرة، فأقرت فى نفسه المرة تلو المرة، وفى الموقف تلو الموقف أنه وهو المحارب الذى لا يقوم له أحد ولا ينال ما وراء ظهره على حد تعبير معاصريه، وهو نفسه أمام سلاح سرى من نوع جديد وغريب عليه تمامًا، يجعل أضعف الخلق بنية أعصى على الهزيمة ببطشه من الجبابرة ذوى البأس الشديد.
ولذلك لم يكن المخرج لعمر قتل محمد، بل كان فى الانضمام بجبروته إلى محمد، فها هنا قضية إيمان كونى تتجاوز قضية القبيلة وتراثها، ها هنا القضية التى تستحق أن توهب لها حياته وتحتشد لها بطولته الفطرية.
وهكذا حدث الانقلاب فى نفس عمر، فإذا أشد الناس على المسلمين، قد بات أشد الناس على أعدائهم وأعتاهم فى الذود عنهم، ونصرة ما يؤمنون به ويدعون إليه.
يصطحب نظمى لوقا عمر بن الخطاب ليخطو معه أولى خطواته إلى الإسلام.
يقول: عندما دخل عمر الإسلام لم يخف إسلامه بل أعلنه، ولم يكن إعلان إسلامه هذا مسألة إعلان للكل فحسب، بل هى حركة أشبه ما تكون بجر الشكل مع حلفائه السابقين، فهو لا يكتفى بإطلاق من كلفه بنشر خبر إسلامه- وهو جميل بن معمر - هكذا فى القوم، بل يتدخل ليزيدهم غيظًا وتحرشًا، كأنما يغريهم بافتتاح المعركة القتالية معه.
يعلق نظمى على هذه المبادأة: ألم أقل إنه قوة ضاربة متحدية، لا مانعة رادعة فحسب، وتكاثر عليه القوم، وهو يجالدهم بمفرده حتى الظهر، فأصابه الإعياء، فيكون قوله لهم أشبه بالاعتذار عن نفاد طاقته لكثرتهم: لو كنا ثلاثمائة رجل مسلم لناجزناكم، فإما أجليناكم عن مكة أو أجليتمونا عنها.
كانت هذه مرحلة جديدة إذن فى الدعوة الجديدة.
مرحلة التحدى والحرب من جانب المسلمين، لا من جانب المشركين، كما كان الأمر من قبل، وهكذا كان إسلام عمر بداية مرحلة التحدى والتصدى لا مرحلة الموادعة والمدافعة، ولولا والد عمرو بن العاص، وهو العاص بن وائل بن سهم الثرى والوجيه الأمثل، لما انتهى ذلك اليوم هكذا، فقد ذبّ عنه الناس وأجاره، ومن عجب أن عبدالله بن عمر عندما سأل أباه بعد الهجرة إلى المدينة بعد سنين، من هذا الرجل جزاه الله خيرًا؟، كان رده العجيب هو فلان وأردفه بقوله: لا جزاه الله خيرًا.
لم يكن عمر بن الخطاب ناكرًا للجميل، ولكن هذا الاستدراك أدل على مزاج عمر الرجل ذى الطبع المعين والذاتية المعينة من أى تعبير آخر، فهو لا يستهويه ويأسره معروف الرجل الذى لا شك فيه، بل يدعو عليه، فليس يغفر له فى نظره مهما فعل أنه لم يسلم ومات على الشرك، وهذه سمة عمرية، لا يشاركه الكثيرون فيها، وهى عدم التسامح بأى ثمن ولا مقتض مع أعداء إيمانه، أى أعداء القيمة العليا التى صارت قضية البطل الكبرى ومدار حياته وبطولته.
الغريب أن عمر بعد إسلامه كان منضبطًا جدًا فى صراعه مع قريش، وهو الصراع الذى كان حربًا كاملة دون قتال مباشر، وكان هذا واضحًا جدًا فى الفترة التى تم فيها حصار الرسول وقومه فى شعب أبى طالب.
يفسر نظمى ذلك بقوله: طوال السنوات الشداد التى عانها المسلمون فى مكة، كان عمر لا يزيد على أن يتحمل هذا العسف والضيم والمصادرة، شأنه شأن بقية المسلمين، ولا ينبرى للاشتباك، فلو أنه كان منه شىء من ذلك لما فات الرواة أن يرووه عنه.
فهل كان هذا السكوت مناقضًا لطبع البطل المطبوع عمر؟
يجيب نظمى لوقا: بطولة عمر كانت مندفعة بغير زمام ولا لجام، قد تطامنت واتجهت إلى الداخل، إلى قمع هذه الاندفاعات الحيوية الجامحة، لكى تخضع وتستسلم، أليس الإسلام أن يسلم المرء لله وما يأمره به؟ إنه الآن أسلم، وعليه أن يمتثل لما يصدر إليه من أمر الله، على لسان نبيه الذى آمن به، مهما خالف هذا الأمر ما ينزع إليه طبعه الجامح، ولست أتصور عمر فى هذه السنوات ساكن النفس ولا يجيش بالرغبة فى الاشتباك بالكفار، بل أتصوره دائم النزوع والثورة على هذه السلبية ولكن من يقوم بترويضه يزجره ويرد اندفاعاته، فيجعل طاعته امتحانًا لإيمانه وتسليمه.
كان عنف الاضطهاد مدعاة لعنف إثارة طبع عمر العنيف، وهذا مقياس يبين صرامة ذلك الترويض الذى تعرض له، فما أشبه بالترويض الذى يتحكم فى ثورات البراكين ويرغمها على قمع شواظها الجامح، وظل عمر إلى أن صدر الأمر بالهجرة إلى المدينة التى أسلم كثير من أهلها وبايعوا على نصرة النبى ومنعه مما يمنعون منه أنفسهم وآلهم، فهاجر فيمن هاجر.
أغرى عنف عمر بعض المؤرخين أن يزعموا أنه خالف أمر نبيه فى الاستخفاء عن الهجرة.
فقالوا: هاجر الجميع مستخفين إلا عمر، تنكب قوسه وتوشح سيفه وتحدى القرشيين فى دار الندوة أن يتبعه منهم من شاء أن تثكله أمه، ولكن رواة السيرة من الثقات لا يروون شيئًا من هذا، وهو الدليل على أن البطل قد تخرج فى تلك السنوات فى مدرسة الترويض، وصار أهلًا لطور جديد.
ويذهب نظمى لوقا إلى أن الكف الشديد لجبروت عمر واندفاعاته لم يكن من الممكن أن يلغى حيويته الدافقة التى كانت موظفة فى اندفاعاته الجامعة طوال حياته حتى تلك الحقبة، والقانون الطبيعى أن القوى الطبيعية العاتية التى تقمع مظاهرها فى شكل معين لا يموت، بل تتخذ هذه القوى العاتية مصرفًا آخر لها غير المصرف المسدود.
فلئن صادر الترويض سمات عمر الباطشة، فلا بد أن قواه النفسية الخارقة اتخذت لها مجالًا لنشاطها غير مجال الفعل البدائى، وليس أمامها فى هذه الحالة غير المجال الشعورى والذهنى، وهكذا ارتد نشاط حيويته إلى داخل سريرته، عوضًا عن الاتجاه الخارجى، فانكب طوال تلك السنوات على تأمل مشاعره وأفكاره وتعميقها ومراقبة خواطره ونوازعه مراقبة يقظة غاية اليقظة حتى لا يفلت زمامها.