رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ربك رب قلوب «7»

أيمن الحكيم يكتب: الرومانسية على طريقة سيد طنطاوى

جريدة الدستور

كانت كل أحلامه وهو صبى صغير فى قريته البسيطة «سليم الشرقية»، بمركز طما بمحافظة سوهاج، لا تتعدى أن يتخرج فى الأزهر ويشتغل مدرسًا فى المعهد الدينى الأزهرى الابتدائى، ويتقاضى مرتبًا شهريًا يعينه على حياة مستقرة، فإذا بالمقادير تخرق سقف توقعاته وتقوده ليتولى مشيخة الأزهر، ويصبح إمامه الأكبر لمدة ١٤ سنة متواصلة، وقبلها ١٠ سنوات على كرسى مفتى الديار المصرية.
د. محمد سيد طنطاوى، شيخ الأزهر رقم ٤٣، كان حالة متفردة بين من تبوأوا تلك المكانة الدينية الرفيعة، فرغم ملامح الشيخ الوديعة ونبراته الرصينة وسمته الطيب وهالة النور التى تشع من وجهه فإنه كان عنيدًا، صاخبًا، صعب المراس، وأثار من الجدل الكثير، بفتاوى صادمة ومواقف حادة ومعارك طاحنة جعلته ملء الأبصار والأضواء لسنوات طويلة.. فقد امتلك الجسارة على أن يخالف الإمام الأكبر الذى سبقه، الشيخ جاد الحق على جاد الحق، فى أمر فوائد البنوك، فيفتى بأنها حلال ولا فرق بين بنك إسلامى وغير إسلامى، وبنفس الجسارة جرّم ختان الإناث، ومنع ارتداء النقاب فى المعاهد الأزهرية، وأيّد فرنسا فى قرارها بحظر الحجاب.
وربما كان طنطاوى أول شيخ للأزهر يدخل فى صدام مع الصحفيين، ويستعديهم عن بكرة أبيهم، فكان مذهلًا أن يطالب بتطبيق حد الجلد على الصحفى إذا نشر أخبارًا كاذبة أو شائعات تثير البلبلة، فهو هنا لا يختلف عن مرتكب جريمة قذف المحصنات، ويجب جلده.
وذهب الرجل بنفسه إلى المحكمة يختصم زميلنا د. محمد الباز، ويطالب بسجنه هو ورئيس تحرير جريدة «الفجر» أستاذنا عادل حمودة، لأنهما انتقدا موافقته على زيارة الفاتيكان وقت توتر العلاقات فى عهد البابا السابق.
ورغم كل ذلك وغيره، إلا أننى أجد نفسى متعاطفًا مع هذا الرجل العنيد الصاخب لأسباب تتعلق بالمرأة، وافتخاره بدورها فى حياته ورحلة صعوده.
فقد توفيت والدة الشيخ بعد شهرين من ميلاده، فى ٢٨ أكتوبر ١٩٢٨، فنشأ يتيمًا ولم تتفتح عيونه بعد على الدنيا، وتولت ثلاث سيدات تربيته والعناية به: جدته لأمه، وجدته لأبيه، ثم زوجة أبيه التى كان يحمل لها محبة خاصة، فقد عاملته كابن لها ورعته وربته حتى صار رجلًا.. وكثيرًا ما كان الشيخ يدعو لزوجة أبيه بالرحمة عندما فتح الله عليه وأقبلت عليه الدنيا.
ورغم أن الشيخ طنطاوى نزح إلى الإسكندرية ليلتحق بمعهدها الدينى وعمره ١٥ سنة فقط، وعاش ٩ سنين فى مدينة مفتوحة ومختلفة العادات والتقاليد، إلا أنه ظل محتفظًا بأخلاقه الصعيدية، وهو ما تجلى فى زواجه من بنت عمه، على عادة أهله فى الصعيد.
تزوج الشيخ الشاب فى نحو عام ١٩٥٩، واستمر الزواج حتى رحل الشيخ فجأة فى ١٠ مارس ٢٠١٠، نتيجة أزمة قلبية حادة تمكنت منه وهو فى مطار الملك خالد الدولى، وكان فى زيارة للسعودية للمشاركة فى توزيع جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، رحل عن ٨٢ عامًا، منها ٤٧ سنة زواجًا.
وفى سنوات الزواج أنجبت له بنت العم ٣ من الأبناء، هم بترتيب العمر: «سناء» الطبيبة بجامعة الأزهر، «أحمد»، وكان يعمل بالجهاز المركزى للمحاسبات، ومات فى حادث سيارة أثناء عودته من مطروح، وتأثر الشيخ كثيرًا لفقده وهو فى عز شبابه، و«عمرو» الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة.
لم يقتصر دور الزوجة على تربية الأولاد وتدبير شئون البيت، لكن الإمام الأكبر السابق كان يستعين بها فى أمور الفتوى لتكون واسطة بينه وبين السائلات من النساء، فقد كان معتادًا فى سنوات توليه دار الإفتاء أن تلاحقه الأسئلة حتى وهو فى بيته، وكان تليفون منزله معروفًا لكثيرين، ولم يكن الشيخ يتردد فى الإجابة عن المتصلين من الرجال، ولكنه كان يضيق بالمتصلات أحيانًا، خاصة أن أسئلتهن تتطرق غالبًا إلى مسائل شخصية جدًا، ولذلك استعان بزوجته، تتلقى هى أسئلة النساء ويجيب عنها وتقوم بإبلاغهن بالفتوى نيابة عنه.. وكان من بين المتصلات أحيانًا نجمات من الوسط الفنى، منهن حنان ترك، وشمس البارودى، وعفاف شعيب التى اتصلت به مرة تسأله عن الميراث الشرعى لزوجة شقيقها الراحل الأجنبية.
وكان الشيخ قليل الظهور فى المناسبات العامة والشخصية، ربما كان أشهرها حضوره عقد قران سارة، ابنة النجم الكبير عادل إمام، وتولى عقد القران بنفسه.. كان الشيخ لا يغادر منزله بعد عودته من عمله، ويحرص على متابعة نشرة أخبار التاسعة فى التليفزيون المصرى، وينام مبكرًا ليستيقظ لصلاة الفجر.. وفى شبابه مارس الشيخ السباحة، ولكن مع تقدم العمر والمشاغل أصبحت هوايته الإجبارية أن يجلس فى البيت مع زوجته وأولاده وأحفاده.
ورغم أن الشيخ طنطاوى كان ضليعًا فى الحساب، ولديه قدرات خاصة فى الرياضيات، ويفهم بطلاقة فى الأرقام وحساباتها، فقد كان أشطر أبناء قريته ومعهده الأزهرى فى مواد الحساب والجبر.. إلا أنه لم يسأل زوجته يومًا ولم يحاسبها على مصروف البيت، وفى المرة النادرة التى تحدث فيها الشيخ عن حياته الزوجية قال بفخر: «منذ أول يوم لزواجى وحتى الآن لا أعرف راتبى، فأنا أتناوله فى ظرف مقفول وأسلمه لزوجتى لتقوم بالإنفاق على البيت.. هى التى تشترى كل شىء حتى احتياجاتى الشخصية من ملابس وغيره هى التى تشتريها لى.. وعمرى ما تدخلت فى شئون البيت، ولا أقول لها عايز أتغدى كذا أو أفطر كذا.. كل اللى تعمله آكله وأشكر الله».
حتى الذين اختلفوا مع الشيخ سيد طنطاوى فى فتاواه ومواقفه لم يختلفوا على نزاهته وطهارة يده.. فقد كان يرفض أن يؤدى الحج والعمرة على نفقة الدولة كما اعتاد غيره، بل يفعلها على نفقته الخاصة، وقد اعتاد أن يحصل على إجازة عمل قبل سفره لأداء العمرة السنوية، وكان قدرها عشرة أيام بالتمام والكمال، وغالبًا فى شهر «صفر» عقب عودة الحجاج من مناسك الحج، حينها يكون الحرم خاليًا ورائقًا، ويقضى أيامًا خمسة فى مكة ومثلها فى ضيافة النبى.. وقد رافقته زوجته فى عدد كبير من «العمرات».
وفى رحلاته ومهامه الرسمية كان يرد بدل السفر المصروف له إلى خزينة الدولة.. وحدث أن تعرضت زوجته لأزمة صحية فرفض أن يستصدر لها قرار علاج على نفقة الدولة، وتكفّل بمصاريف علاجها من جيبه الخاص.. وهو ما تكرر معه شخصيًا عندما أجرى جراحة فى القلب، وعرضت عليه جامعة الأزهر أن تتحمل نفقات العملية بحكم أنه أستاذ غير متفرغ بالجامعة، ودفع التكاليف من ماله الخاص.
ولما نقل مقر إقامته إلى التجمع الخامس، فى بيت يتسع لأولاده وأحفاده، شعر أفراد الأمن المكلفين بحراسته ببعض الضيق من بُعد «المشوار» عليهم، وأنهم لا يجدون ما يوصلهم إلى بيوتهم فى ساعات الليل المتأخرة، فقرر الشيخ أن تتولى سيارته الخاصة توصيلهم، وقد كان من السهل أن يطلب سيارة إضافية من مشيخة الأزهر.
لم يكن الشيخ طنطاوى يمتلك رومانسية ولا شاعرية محمود درويش، الذى سُئل يومًا عن لون عيون زوجته رنا قبانى، فقال: «لا أدرى، ففى كل مرة أتأمل فيها عينيها أفقد الذاكرة».. ولكنه لم يكن يتردد فى أن يعلن حبه لها وأن الله أكرمه بها.
وحدث أن ذهبت الفنانة الكبيرة صفية العمرى لتجرى حوارًا مع الشيخ فى واحد من أجمل الأعداد الصحفية التى أصدرتها «نصف الدنيا»، فى زمن «الأستاذة» سناء البيسى، وسألته صفية العمرى عن فتوى جديدة له يومها «١٩٩٩» أثارت الجدل والخلاف، طالب فيها بألا يتم عقد الزواج إلا بعد أن يُجرى الخطيبان تحليلات طبية تثبت خلوهما من الأمراض التى قد تؤدى إلى إنجاب أطفال مشوهين، وسألته بدهاء عن زواج الأقارب وما يمكن أن يسفر عنه من «كوارث» طبية، فتنبه الشيخ بسرعة إلى مغزى السؤال، وقال بخفة ظل: ليس معنى أن الرسول قال «اغتربوا»- أى تزوجوا من غير أقاربكم- أن زواج الأقارب حرام.. أنا شخصيًا متزوج من بنت عمى يا ست صفية ومرتاح والحمد لله.
المدهش أن الشيخ طنطاوى وقف فى وسط حواره مع صفية العمرى وأنهاه فجأة، بعدما تذكر أن لديه اجتماعًا مع مجمع البحوث الإسلامية.. كانت صفية العمرى يومها نجمة يشار إليها بالبنان، ويتمنى الجميع أن يجلس معها، لكن الشيخ طنطاوى وحده الذى صرفها من مكتبه.
رحلت زوجته قبله بنحو ثلاثة أعوام، وتأثر جدًا لغيابها، وأحس بأنه فقد «الضهر والسند»، وتراجعت صحته كثيرًا فى سنواته الأخيرة، ومال إلى العزلة، واختلت حياته دون رفيقة عمره، وكان من ضمن أمنياته أن يحسن الله ختامه، ويُدفن بجوار صحابة النبى فى «البقيع»، وكان له ما تمنى.