رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوار مع قيادة إخوانية.. «تمصير الإخوان» أم «مراجعة واجبة»


د. كمال الهلباوى صوت للتفكير العاقل فى زمن شهوة السلطة التى أضاعت فيها «الجماعة» أى فرصة لبناء التوافق الوطنى

أكن تقديراً خاصاً للقيادى الإخوانى د. كمال الهلباوى فقد حاول الرجل التواصل منذ عودته من لندن بعد ثورة الشعب المصرى فى 25 يناير 2011 مع العديد من القوى والشخصيات الوطنية و«أنا منهم» وحاول أن يكون صوتاً للتفكير العاقل فى زمن شهوة السلطة والنكبة التى أضاعت فيها «الجماعة» أى فرصة لبناء توافق وطنى بعد أن منحها التسامح الثورى فرصة تاريخية بعد ثمانين عاماً من الصراع بينها وبين مصر الدولة والسلطة والشرعية فمارست الاستعلاء والتمكن للمشروع الخاص على حساب المشروع الوطنى المأمول - انتظر الشعب المصرى أن تبنى وطناً فتآمرت على خرابه، حتى خرج الشعب المصرى إليها باحتشاده التاريخى «ثائراً» على نظام الجماعة ليسحب منها ما منحها إياه «وبقرار شعبى لا بالسلطة» وبحظر تاريخى لأن يسمح «لتنظيم دولى متعد لفكرة الوطنية ذاتها» أن يحكم مصر.

ولسوف يبقى لهذا الشعب العظيم الحق فى محاسبة التنظيم وقياداته أمام دولة القانون والمحاكمة العادلة ولن يقبل تنازلاً ولا مساومة على هذا الحق فمن ارتكب جريمة تحالف مع أعداء وطنه أو خيانة عظمى لشعبه أو فساداً سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً أو استغل نفوذه فى جمع المال الحرام لا يجب أن يفلت من العقاب أما غير هؤلاء ففى الوطن متسع للجميع بل يجب أن نسعى معهم لبناء توافق مجتمعى يعصم الأمة من حالة إفشاء الكراهية والرفض والإقصاء.

هذه المقدمة كانت واجبة قبل أن أحاور القيادى الإخوانى د. كمال الهلباوى فيما نشره بمقالين لسيادته على صفحات جريدة «الدستور» الغراء فى زاويته «محاولة للفهم» وبعنوان «تمصير الإخوان» وقد تابعت بكل اهتمام من أقوال حسن البنا مؤسس الجماعة استدلالاً على مفاهيم بعينها «الوطنية - القومية العربية - الأمة الإسلامية» فى مراجعة تاريخية حاول فيها أن يفصل بين مرحلة التأسيس وما آل إليه الأمر على يد القيادة التى انهارت على يديها الجماعة فى هذه المرحلة.

ولأننى ممن يعتقد أن حق الشعب المصرى فى قراءة نقدية تاريخية لمسار «جماعة الإخوان» التى خرجت منذ ثمانين عاماً بمشروعها وتنظيمها وممارسات قياداتها المتعاقبة ثم بتحالفاتها فى الداخل والخارج هو استخلاص مهم لمصر شعباً ومستقبلاً وأن القراءة الدقيقة لأدبياتها المسجلة والمقروءة فى توازيها مع الحركة الوطنية المصرية بل وصراعها معها بتنويعاتها المختلفة ثم تكرار محاولات الاستيعاب ثم الصدام معها فى ظل سلطة حكم الملكية ثم الجمهوريات المتعاقبة وما آل إليه هذا الصراع فى هذه المرحلة هو أمر بالغ الأهمية لربط الماضى بالحاضر والمستقبل، خاصة أنها تقف بتنظيمها وتحالفاتها فى هذه المرحلة الدقيقة بعد وصولها للسلطة وحكم مصر فى مواجهة مع الدولة المصرية والشعب المصرى الذى قاوم بسلطاته ومؤسساته مشروع الاجتياح بالتمكين والأخونة طوال عام من حكم الجماعة حتى خرج فى موجته الثورية فى 30/6/2013 لإسقاط نظام الإخوان ذاته، متطلعاً لنجاح الدولة الوطنية المصرية وطموح شعبها لبناء الجمهورية الثالثة على أسس من ركائز الاستقلال الوطنى والدولة الديمقراطية الحديثة ونظام الحكم المحصن ضد الفساد والاستبداد وفى وطن عادل يقف على مسافة واحدة من أبنائه بتعدديتهم السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية.

وإن النقد الذاتى والنقد المجتمعى «لتاريخ ودور الجماعة» هو خطاب للعقول لا لأصحاب المناورات والمؤامرات ومن يمارسون الزيف والاستلاب العقلى لقواعدهم الشعبية باسم «الشرعية والشريعة» بينما كل ما يطمحون إليه هو الخروج الآمن مع حلفائهم فى الخارج حتى لو كان ذلك على حساب حرق الوطن وضياع أمنه القومى وتمزيق شعبه ووحدته.

ربما لهذا كله رأيت أن أحاور القيادى الإخوانى الكبير د. كمال الهلباوى فيما ورد بمقاله فقد نقل عن الشيخ حسن البنا قوله «إن دعاة الوطنية لا يعنيهم إلا تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض وأن الوطنية قد تقسم الأمة إلى طوائف تتناحر «بالوطنية الحزبية» وقد اعتبر حسن البنا حدود الوطنية تتحدد بحدود العقيدة وأن هذا كان مكمن الفتوحات القدسية التى أدهشت الدنيا بالسلف الصالح بما عرف فيها من عدل ونبل وفضل» ثم اختتم د. الهلباوى مقاله من هذا الاستدلال باستدلال آخر من قول حسن البنا فى رسالة وجهها للشباب «أنه يرى الوطنية فى مصر ثم فى أحد الإسلام وكان الرئيس ناصر يراها فى القومية العربية وأنه اليوم يراها البعض فى جزء من مصر فقط».

إن هذه النتيجة الخطيرة هى ما دفعتنى لحوار كاتب المقال ربما لأننا بحاجة لأن نذكر بعضنا البعض بأن جزءاً من ضياع هذه الأمة ارتهن بعدم دقة المصطلحات وعدم دقة نقل الوقائع والمعلومات، وعدم شجاعة مراجعة الخطأ والاعتراف به!

فالمعلوم أنه فارق كبير بين الأمة «بمفهوم سياسى والأمة «بمفهوم عقائدى» فالإسلام بعد سقوط نظام الخلافة العثمانية تحول إلى «أمة عقيدة» تجمع كل مسلم بالمسلم أينما وجدوا وهى فى رأى «أمة أقوى» من تلك التى قامت سياسياً على التشبث «بالملك العضود» الذى سخر فيه بعض الحكام «حتى باسم الخلافة» الدين من أجل مصالح استمرار الحاكم ولو كان فاسداً أو مستبداً فبعد عبور الإسلام مراحل تقدم الدولة القائمة على الإسلام الحضارى الذى لم يروع شعباً فى خصوصيته وتاريخه وثقافته وتنوعه، وإنما انطلق تعليم الدين الحنيف الذى عانق هذه الشعوب تحريراً للإنسان عقلاً وقلباً وبنى منهجاً للحياة استفادت من تجارب الحضارات والشعوب لا ملكاً ولا سلطاناً، هذه المراحل الحضارية فى التاريخ لم تنف مراحل أخرى من الانحطاط السياسى والحضارى استخدم فيه الدين لمساندة «حكم عضود» لا «خلافة راشدة» بعضها كان من الضعف والفساد والاستبداد حتى أضاع الأندلس قديماً وأضاع فلسطين حاضراً.

إن التناقض بين رؤية حسن البنا لحدود الوطنية بأنها حدود العقيدة مع ما نؤمن يستند إلى أن مفهوم الوطنية المصرية لدينا تمتد بالذاكرة الوطنية لدولة حضارة هى الأسبق لأنها ابنة السبعة آلاف عام، وهى المكان الذى اختاره الخالق سبحانه معبراً للحكمة ولكل الأديان والأنبياء فى دلالة على أن مصر كل وليست جزءاً.

وكانت الوطنية المصرية هى التى قدمت إسهاماً ذاتياً وحضارياً فى ستة قرون سادت فيها المسيحية فأضاءتها بتجليات تحمل خصوصية مصر حتى فى ممارسة العقيدة المسيحية، ثم تكرر المشهد إسهاماً فى بلورة وبناء منهج الوسطية الإسلامية لتصبح رمانة ميزان فى ظل ما بعد الفتح الإسلامى لها حيث خرج هذا الدين الحنيف بعصارة مصر فأضاءت بأزهرها الشريف فى رحابة فكرية إسلاماً لا يعرف التصنيف الطائفى بداخله وقدرة على التعبير الأسمى عن وسطية إسلامية حضارية وسط تيارات التشدد حولها يميناً ويساراً.

ولم تكن الوطنية المصرية مقطوعة الصلة بذلك فى ظل بناء الدولة الحديثة التى بدأت مع ثورة علمائها الذين سلموا السلطة لقائد عسكرى هو محمد على باشا ليبدأ مشروع رد الاعتبار للذاتية المصرية استقلالاً عن سلطة الاحتلال العثمانى وما اعترى دولة الخلافة من تحلل وضعف فكان استقلال مصر انطلاقاً لأداء دورها الجغرافى والتاريخى لولا تكالب أعداء هذا الوطن على المشروع وعليها.

ثم كانت الوطنية المصرية فى رؤية عبدالناصر وثورة يوليو 1952 وهى حلقة جديدة غير منقطعة الصلة بعمقها التاريخى هى التى أعادت اكتشاف دوائر الهوية وتكامل المرور معها بلا تناقض فلم تقتصر ـ كما ورد بالمقال ـ على ربطها «بالقومية العربية» بل أسست وحددت دوائرها الثلاث، «الدائرة العربية» حيث مقومات أمة سياسية «ممكنة» التوحد بمقومات الجغرافيا والتاريخ والثقافة المشتركة والمصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فى عالم يتشكل على الكيانات الكبرى لا على شظايا التقسيم الاستعمارى، ثم حددت الدائرة الأفريقية انتماء جغرافياً يحتوى على أمن مصر القومى فى شريان حياتها «منابع النيل وروافده» فوصفت «مصر الدور فى خدمة الهدف» ثم حددت «الدائرة الإسلامية» وفيها انتمت مصر للعالم الإسلامى احتراماً «لأمة العقيدة» لا «أمة السياسة والدولة الواحدة».

وقدمت مصر للمشروع الإسلامى العصرى «الموحد والجامع» لشعوب وقبائل ما لم يقدمه أحد حين عكست «عالمية الدعوة وليس خندق الدولة» فأنشأت منظمة المؤتمر الإسلامى فى ستينيات القرن الماضى، وبذلت الجهد والمال والرجال ومبعوثى أزهرها وعلمائها وطاقاتها المبدعة إلى كل ربوع الأرض نشراً للقيم فكان للدول الإسلامية بنيان عصرى لا يتناقض مع طبيعة التكتلات فى العصر الحديث ولا يقوم على غزو أو فتح تجاوزته البشرية، وإنما على تكامل وتراحم وتعاون «أمة عقيدة» وبناء المواقف التى تخدم أهدافها ويليق بمقامها الحضارى فى احترام التنوع والمخزون الحضارى لهذه الشعوب ولا يفتعل تناقضاً بين ذاتيتها الوطنية وانتمائها للإسلام كعقيدة.

إن هذا الوضوح للمشروع والهدف هو الذى مكن لمصر الدور «بوطنيتها وعروبتها وإفريقيتها وإسلامها لتلعب دوراً رئيسياً فى عالمها بالمساهمة فى إنشاء ما سمى بكتلة الميزان «دولة عدم الانحياز والحياد الإيجابى والتعايش السلمى».

وفى عالم ثنائية القطبين المتصارعين «الغرب والاتحاد السوفيتى» فى القرن الماضى ومازالت مجموعة الـ77 تبحث عمن يبعث فيها روحاً جديدة ودوراً جديداً فى عالم يتنازعه الآن المشروع الكونى للولايات المتحدة الأمريكية وشركاؤها وتصارع فيه الجميع لمنع تحول العالم لمتعدد الأقطاب فيما هو قادم.

وربما الحرب التى تمارس على مصر الآن عبر أدوات الجيل الرابع للحروب بالوكالة هو أحد تجليات الصراع القائم للحيلولة دون نهوض هذا البلد مصر بدوره القيادى دولة وشعباً وبمقوماتها الذاتية التى كثيراً ما غيرت معدلات القوى تاريخياً.

إن الخلط بين الهويات والأدوار وافتعال التناقض بينها هو أحد أهم أسباب الخلاف الفكرى مع مشروع «جماعة الإخوان» التى ترى بعين تاريخية تناقضاً بين أن نمارس كوننا «وطنيين وعروبيين وإسلاميين وأيضاً أفارقة وأصحاب دور فى عالمنا ليس عنوانه «العقيدة الدينية» على قيمتها ورحابتها فى ضميرنا الجمعى حضارياً.. إن المحنة هى فى «العقل والمفاهيم» التى ظلت على مقولات حسن البنا ومن تلاه من قادة الجماعة ولم تمارس نقداً ذاتياً لفكرها وتنظيمها ومسارها التاريخى بل سمحت باستخدامها أداة فى يد أعداء مصر الوطنية والعربية والإسلامية وتآمرت عليها «جغرافياً وتاريخياً» ثم تحولت وهى فى موقع السلطة والحكم لعبء حقيقى على الدولة والشعب فى محنة تعاملها مع مصر من منطلقات أنها «جزء» وليست «كل» وبعقلية «طظ فى مصر»!

وإذا كنا نعيش حتى هذه اللحظة تداعيات آثار المحنة والحريق الذى يحيط الوطن بالخطر ويمارس فيه الضلال والخيانة بزراعة الإرهاب المادى والمعنوى يسعى لزلزلة وطن بتقسيم شعبه وشرذمته وهدم جيشه الوطنى ودولته العريقة «لا العميقة» فى جريمة تقديمه لمشروع أعدائه ودائماً باسم «المشروع الإسلامى ونصرة الأمة الإسلامية»، فعن أى مشروع وأمة نتحدث؟!

يخطئ من يظن أن مصر قد غادرها وعيها الجمعى فضمير هذا الشعب يختزن «خبرة الزمن» وهو ما يستدعى «حواراً إمامته العقل» يختلف عن إعادة إنتاج مفاهيم حسن البنا وجماعته.

■ رئيس حركة الدفاع عن الجمهورية