رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أميرة ملش تكتب: ظاهرة قتل الأطفال وتغيّرات المجتمع

أميرة ملش
أميرة ملش

على مدى سبعة عشر عامًا، هى عمرى فى الصحافة، كان أغلبها فى صحافة الحوادث، حققت وقمت بتحليل العديد من الجرائم، وخلال شغلى فى هذا الملف، قابلت نماذج كثيرة من البشر، ارتكبوا مختلف أنواع الجرائم، وكنت أحرص دائمًا على مقابلة وجهًا لوجه مع المتهمين، ليس للتحقيق معهم لأنى لست وكيل نيابة أو ضابط مباحث، ولكن لأسباب أولها هى دقة العمل الصحفى، بأن أعرف من الشخص نفسه ماذا حدث، سواء كان يبرئ نفسه أو يعترف بالفعل المنسوب إليه، وثانيًا حتى أفهم لماذا؟ وكيف تتم الجرائم وكيف يتحول الإنسان العادى المسالم إلى قاتل مثلًا؟.
قابلت القتلة وتجار المخدرات والعملة، والنصابين الذين يعتمدون على ذكائهم وطمع الناس، وهو بالضبط ما قاله لى نصاب محترف كان متهمًا ومعترفًا بالنصب على ضباط وقضاة وناس من علية القوم وناس غلابة أيضًا.. وأجريت حوارات مع رجال أعمال متهمين بالسرقة والفساد والرشوة، كما قابلت متهمات فى قضايا الدعارة، وأمهات بعن أبناءهن، ومن المفترض أنه بعد كل هذا ألا أندهش من أى جريمة، خاصة أننى توصلت إلى شىء مهم بجرائم القتل بشكل خاص، وهو أن كل شخص، أيًا كان تاريخه السلوكى والأخلاقى على مدار حياته، ممكن أن يتحول إلى قاتل فى لحظة، وبشكل عام كل شخص معرض بالفعل لارتكاب جريمة فى وقت ما وتحت ضغط الظروف، ولكن هناك القوى الذى يسيطر على نفسه وعلى انفعالاته، وهناك من يتورط وينجرف فى جريمة لأنه لا يستطيع السيطرة على أعصابه.
ولكن فى الحقيقة أن جرائم قتل الآباء لأبنائهم تدهشنى، فقد كتبت وحققت فى جرائم عن بيع الأطفال، وأذكر أنها كانت جرائم بالغة القسوة منذ سنوات عدة، وكانت دائمًا لأمهات لهن دوافع فى ذلك، على رأسها الفقر، ودوافع أخرى من بينها أن الطفل جاء من علاقة غير شرعية والأب اختفى أو رفض الاعتراف به، فتبيعه الأم حتى تتخلص من العار والفضيحة وعدم قدرتها على تحمل المسئولية بمفردها، وذات مرة كان السبب هو التجارة وكانت القضية لفتاة صغيرة فى السن وتفعل ذلك من باب المتاجرة، وتحمل من رجال مختلفين وتبيع الأطفال وذلك بالاتفاق مع الرجل الذى يأخذ نسبته، وكان ذلك فى منطقة الغورية ومنذ عدة سنوات، وقد اعترفت بذلك وقالت لى شيئًا عجيبًا عندما قابلتها فى قسم الجمالية، فقد قالت إنها تصورت أنها تفعل خيرًا لأن هناك أمهات كثر محرومات من الإنجاب، وفى نفس الوقت تستفيد هى ماديًا.
وكان لبيع الأطفال أسعار تختلف فى المناطق الراقية عن المناطق الشعبية، ولكنى لا أذكر أننى حققت فى جريمة قتل أمهات أو آباء لأبنائهم دون سبب، وهو دليل على أننا أمام جرائم حديثة العهد على المجتمع المصرى، كانت تحدث بالتأكيد ولكنها كانت نادرة الحدوث وغير شائعة، وكان معظمها لآباء وأمهات قتلوا أبناءهم أثناء الضرب، يعنى يكون الأب يضرب ابنه عقابًا له على أى شىء مثل الرسوب فى الامتحان أو البكاء المستمر أو التبول اللا إرادى ويلفظ الطفل أنفاسه الأخيرة من قسوة الضرب، وقد قمت بإجراء حوارات مع متهمين بهذا النوع يقول أو «تقول» إنه لم يقصد أن يقتله بل كان يؤدبه فقط و«لكنه مات فى إيديا»، أو يكون الأب، والأم، فى حالة اكتئاب مثلًا أو خلل عقلى ونفسى ويقتل ابنه، وتوجد أسباب أخرى متعلقة بالشرف عندما يقتل الأب ابنته بسبب علاقة جنسية غير شرعية ويحدث غالبًا فى الصعيد.
ولكننا على مدار عشرة أعوام تقريبًا، نواجه ظاهرة من يقتلون أبناءهم بسبب الفقر والخوف عليهم من الجوع والمستقبل المجهول، حتى تطور الأمر وأصبح بلا سبب، وكان شائعًا من قبل قتل الأبناء لآبائهم وأمهاتهم، وقتل الأخ لأخيه، ولكن الأم والأب يَقتلان لم يكن يحدث كثيرًا غير فى الحالات السابق ذكرها وبصورة نادرة.
وجريمة المرج تحديدًا تشير إلى تغيّر ما، غير طبيعى على الإطلاق، طرأ على المجتمع المصرى، لأن القتل حدث بلا سبب تقريبًا، أو على الأقل بلا سبب منطقى أو معقول، فهى ليست مبررة نهائيًا، وتشعر وأنت تقرأ دوافعها أنها ليست لحظة جنون أو قسوة، بل هى شىء لا أعرف أو أستطيع تسميته، ربما المتخصصون فى علم النفس والاجتماع يعرفون له مسمى، لا أستطيع أن أفسر كيف لأب أن يرضخ لإرادة زوجته الغيورة، التى طلبت منه قتل أولاده الثلاثة من الزوجة الجديدة، التى تزوجها تقريبًا حتى تنجب له أطفالًا لأن الأولى لا تنجب، ويوافق على قتلهم، لكنه لا هو ولا الزوجة الغيورة يقومان بذلك، بل يذهب لأمهم ويطلب منها أن تقوم هى بقتل الأولاد «اللى هم أولادها»، وإلا يطردها، فترضى وتوافق وتقتل أولادها حتى تعيش فى منزل وكنف زوجها وضرتها، تقتل الثلاثة غرقًا، ويقوم هو بتصويرها حتى لا تفتح فمها بعد ذلك، لا يهمنى ما حدث بعد ذلك من تأنيب ضميرها وحالة الصرع، وتعذيبهما لها حتى فقدت نظرها.
ما يهم هو سيناريو قتل الأطفال ودوافعه، وأعتقد أن مؤلفى السينما والدراما لم يجرؤ أحد منهم يومًا على تأليف هذه القصة، فهى لا تخطر على بال أحد، عندما قمت بعمل تحقيق منذ سنوات عن جريمة بيع الأطفال، كما أشرت سابقًا، وأثناء تغطية الجانب القانونى لهذه القضية وجدت أنه لا توجد مادة فى القانون المصرى خاصة بمثل هذه الجرائم، وقال لى المتخصصون فى القانون فى هذا الوقت إن المشرع من قبل لم يضع هذه المادة لأن المجتمع لم يكن يشهد مثل هذه الجرائم، فهى جريمة حديثة لذلك لا يوجد ما يشير لعقوبتها فى القانون، وهنا التغيّر الذى حدث، الذى يكمن فى تطور الجرائم، المجتمع لم يشهد من قبل جرائم بيع الآباء والأمهات لأطفالهم، فأصبح الآن يشهد هذه الجريمة، وأضيفت إليها القتل، وبالفعل أصبح قتل الأطفال ظاهرة، أو أوشك على ذلك، وهى أفعال ضد الإنسانية عمومًا، وعلى مدار عام شهد المجتمع المصرى جرائم كثيرة لا أعرف عددها على وجه الدقة لآباء وأمهات قتلوا أبناءهم، ولعل أعنفها وأكثرها غموضًا قضية ميت سلسيل، عندما ألقى أب بطفليه فى المياه، ولكن أعتقد أن جريمة المرج أشد قسوة وأكثر غموضًا، وموقف الأم تحديدًا أكثر غرابة من الأب وزوجته الأولى، فإذا كان رضخ هو لزوجته التى تنفق عليه وحتى لا يطرد من نعيمها، كيف ترضخ الأم للاثنين وتقتل بنفسها وبيديها أبناءها أيًا كان السبب، لا أحد يستوعب ما حدث، فهو مذهل فعلًا ويصيب من يعرف بالجنون، هل الفقر هو السبب؟ وحتى إذا كان الأمر كذلك فهو سبب تافه أمام هذه الجريمة بالتحديد، حيث لا يعد سببًا أو مبررًا هذه المرة.. وأعتقد أننا فى حاجة شديدة لعلماء النفس والاجتماع لتفسير تطور الجرائم فى مصر خلال السنوات الأخيرة، خاصة الجرائم الخاصة بقتل الآباء والأمهات لأطفالهم بسبب أو دون.