رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كارثة محطة مصر



كارثة جديدة وضحايا جدد، ومثال صارخ على الإهمال والاستهتار، وغياب المسئولية، ولا نتمنى أن تكتمل المأساة بانعدام المحاسبة، والاكتفاء باستقالة (أو إقالة) وزير النقل أو رئيس هيئة السكك الحديدية وعدد من قيادات الوزارة. ومع المحاسبة، لا بد من تحديد أوجه القصور أو الخلل ومعالجتها، حتى لا تحدث حوادث شبيهة أو أكثر بشاعة.
القرار الأخير الذى أصدره وزير النقل، قبل استقالته أو إقالته، كان بتشكيل لجنة لإعداد تقرير فنى عن الحادث، برئاسة نائب رئيس هيئة السكك الحديدية لقطاع الصيانة والدعم الفنى. أما ما رأيناه، بأعيننا، فكان شهادات دامغة على الإهمال والاستهتار، بدءًا من انطلاق جرار، بسرعته القصوى، بدون سائق، ومرورًا بالطرق البدائية التى تمت بها عمليات الإنقاذ والإسعاف، وليس انتهاء التعامل الإعلامى مع الكارثة. وقبل ذلك كله، يمكنك أن تضيف كلامًا كثيرًا عن تقادم شبكة القطارات، والإهمال الذى صار مرتبطًا بتشغيلها وصيانتها.
المعلومات المتاحة تقول إن الحريق وقع نتيجة تصادم جرار قطار وعربة «الباور» الخاصة بالتكييف، بصدادات نهاية رصيف رقم ٦ بالمحطة، وأن دخول جرار القطار بسرعته القصوى أدى إلى تصادم قوى تسبب فى انفجار تانك السولار. ولا نملك غير انتظار أن يكشف ذلك التقرير، وتحقيقات النيابة العامة، عما إذا كانت هناك أياد عبثت بالجرار من عدمه، وحول أسباب انطلاقه دون سائق، وكيفية توجه ذلك الجرار منفردًا إلى المحطة، من الورشة، مع أنه من المفترض يقطر خلفه عربات الركاب.
أمام تلك الأسئلة، لا مجال لـ«الفكاكة» أو «الفهلوة»، قبل أن يظهر تقرير اللجنة الفنية، وانتهاء تحقيقات النيابة العامة. وإلى أن يحدث ذلك، تظل كل الاحتمالات قائمة، مع الوضع فى الاعتبار أن وسائل النقل «تنطوى على مواطن ضعف بنيوية عديدة، يجعلها هدفا للإرهابيين»، والكلام نقلته، وكالة الأنباء الفرنسية، فى سبتمبر ٢٠١٧، عن مذكرة أصدرتها الإدارة العامة للشرطة الوطنية فى فرنسا، طالبت فيها بأن يكون هناك اهتمام خاص بالقطارات، لكونها «هدفًا مفضلًا» للإرهابيين، ودعت المسئولين والعاملين والسائقين إلى اتخاذ كل التدابير اللازمة و«الإبلاغ الفورى، وبدون تأخير، عن أى سلوك مشبوه. كما سبق أن حذرت السلطات الألمانية، فى أغسطس ٢٠١٧، من احتمال وقوع هجمات إرهابية تستهدف القطارات.
من قصر الاتحادية، وقبيل كلمته فى المؤتمر الصحفى المشترك مع نظيره الألبانى، إلير ميتا، توجه الرئيس عبدالفتاح السيسى بخالص التعازى لأسر ضحايا الحادث، متمنيًا للمصابين خالص الشفاء. وقال إنه أصدر توجيهاته للحكومة بالتوجه الفورى لموقع الحادث ومحاسبة المتسببين فيه، بعد إجراء التحقيقات اللازمة. ومن موقع الحادث، تعهد رئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولى، بمحاسبة المتسببين فى أى تقصير أو إهمال. موضحًا أن لجنة فنية، بجانب النيابة العامة، ستعمل على تحديد المسئول عن الحادث، ومحاسبة المتسببين فيه. ومؤكدًا أن الحساب سيكون عسيرًا، وأنه لن يتم التهاون مع أى تقصير من أى مسئول مهما كان موقعه.
مع المحاسبة، يتكرر السؤال الأهم: ماذا يضمن عدم تكرار حوادث شبيهة أو أكثر بشاعة؟
هل نطالب، مثلًا، بـ«ضرورة مراجعة كل الاحتياطات وعوامل الأمان التى يجب أن تُتخذ لمنع تكرار الحوادث وضرورة التأكد التام قبل خروج القطارات من سلامتها فنيًا ووضع ضوابط صارمة للحفاظ على منظومة الأمن والسلامة بالسكك الحديدية»؟. أم نناشد بـ«ضرورة المتابعة المستمرة لأعمال الصيانة والتطوير والمتابعة الدورية»؟. أم نقول إننا فى حاجة إلى «خطة عاجلة وشاملة لإدارة الأزمات وطرق التعامل معها»؟.
هذه الأسئلة وغيرها، سبق أن طرحناها، فى ١٣ أغسطس ٢٠١٧، متبوعة بسؤال أهم: نطالب ونناشد ونقول لمَن؟، إذا كان ما بين التنصيص هو كلام وزير النقل نفسه. وكان الوزير، الذى صار سابقًا، قد أدلى بتلك التصريحات حين تصادم قطاران بالإسكندرية، وهى جريمة بشعة أخرى، راح ضحيتها ٢٠ شخصًا وأصيب أكثر من ٤٣، وأحال النائب العام ٦ أشخاص إلى المحاكمة الجنائية العاجلة بتهمة «الإهمال الجسيم». ووقتها استقال أو أُقيل رئيس هيئة السكك الحديدية، وتعهد وزير النقل، المقال أو المستقيل، بأن يشهد قطاع السكك الحديدية «تطويرًا شاملًا». ومع ذلك، مرت تلك الحادثة كما مر غيرها، وكفكف أهل الضحايا دموعهم ودفنوا موتاهم، لكنهم قطعًا لم يدفنوا غضبهم، الذى ظل حيًا فى قلوبهم وقلوب آخرين.
غضب مماثل، سيظل يسكن الآن قلوب أهالى ضحايا الحادث الأخير، وقلوب آخرين أيضًا، لأن غضب من لا حول لهم ولا قوة، لن تطفئه سوى قرارات حاسمة، تطال كل من تسبب فى حدوث هذه المأساة أو تلك الكارثة، وأقل من هذا لا يكفى، ولا يمكن قبوله من رئيس، يؤمن الشعب، إلا قليلًا، بأنه منهم ويشعر بهم.