رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما مصلحة الغرب فى نشر الديمقراطية عندنا الآن؟


يجب ألا تعنى الديمقراطية عندنا نسبية الحقيقة -كما هى فى الغرب- لأن لدينا أشياء ثابتة إلى قيام الساعة فيما يتعلق بالعقيدة والعبادة والأسرة، فإن إمضاء نسبية الحقيقة سيؤدى إلى فوضى لا نهاية لها فى مختلف شعب الحياة الفكرية والخلقية والاعتقادية والسلوكية.

ليست الديمقراطية أمراً جديداً على المنطقة، بل تعرفت منطقتنا على الديمقراطية منذ ما يزيد عن قرن ونصف، فبدأت الخلافة العثمانية أولى تجاربها الديمقراطية بعد إعلان خط كلخانة عام 1839م والذى يقر بحقوق الإنسان وإعلان الدستور عام 1876م، كما بدأت مصر أولى تجاربها الديمقراطية فى عهد إسماعيل باشا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، كما عرفت تونس تجربة مماثلة فى إعلان الدستور والبرلمان فى فترة مقاربة فى عهد خير الدين التونسى، ثم قامت تجارب أخرى فى القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى فى مصر والعراق ولبنان والسودان وسوريا إلخ.

وكانت أبرزها التجربة الديمقراطية فى مصر والتى انبثقت بعد ثورة 1919م بقيادة سعد زغلول، والتى انتهت بانقلاب جمال عبد الناصر فى عام 1952م، والذى تحول إلى ثورة شعبية من بعد التفاف الشعب إليها وحضنها ولكن الأمر الملاحظ هو فشل هذه التجارب جميعها، فلماذا فشلت؟ فشلت لأنها لم تراع شخصية المنطقة الحضارية ومنظومتها الثقافية، فهل يكون مصير التجربة الجديدة مشابهاً للتجارب القديمة؟ من الأرجح ذلك طالما أنها تقوم على نسخ تجربة من جسم الحضارة الغربية إلى جسم الحضارة الإسلامية دون مراعاة أية ظروف ثقافية أو حضارية خاصة.

يجب أن نعى أن الديمقراطية التى تتطلع إليها الأمة، واستهدفتها من الثورات التى قامت بها، ومن التضحيات التى قدمتها، تعنى تحقيق العدل والمساواة لكل أفراد الأمة، وتعنى محاسبة المسئولين، وتعنى اختيار الحاكم، وأن يكون حكمه برضا الجماهير وموافقتها وانتخابها له، وتعنى حرية إبداء الرأى، وتعنى تساوى جميع أبناء الأمة أمام القانون، وتعنى تداول السلطة.

ويجب ألا تعنى الديمقراطية عندنا نسبية الحقيقة -كما هى فى الغرب- لأن لدينا أشياء ثابتة إلى قيام الساعة فيما يتعلق بالعقيدة والعبادة والأسرة، فإن إمضاء نسبية الحقيقة سيؤدى إلى فوضى لا نهاية لها فى مختلف شعب الحياة الفكرية والخلقية والاعتقادية والسلوكية.

كما يجب أيضًا ألا تعنى الديمقراطية عندنا حرية الفرد المطلقة فى كل المجالات –كما هى فى الغرب- لأن ذلك سيؤدى إلى دمار وخراب، ومن الأمثلة على الآثار السيئة لحرية الفرد المطلقة: الأزمة الاقتصادية التى وقعت فى أمريكا وانعكست على كل أنحاء العالم عام 2008، والتى كانت بسبب حرية الفرد الاقتصادية التى لا تخضع لأية رقابة، مما اضطرهم إلى تعديل هذا الوضع ووضع الضوابط والرقابة المناسبة على حرية الفرد الاقتصادية.

إن التاريخ يكشف أمامنا صورة أخرى تقابل الصورة «الحسنة» التى يتداولها بعض الناس عن الدور الأمريكى فوق الكوكب. ويذكر الصحفى الأمريكى (كندى الأصل) بيتر سكادين فى كتابه (الكتاب الأسود للولايات المتحدة الأمريكية)، أن أمريكا كانت تدعم الأنظمة التى نكلت بخصومها أسوأ تنكيل، وكانت ترتكب المجازر الوحشية فى حق مواطنيها. فأمريكا - كما يراها بيتر سكادين - كانت تحارب قوى التقدم المتمثلة فى الطلاب والنقابيين والصحفيين والمثقفين اليساريين، بل وتحارب حتى الكنيسة ورجال الدين التحريريين. لقد داست الولايات المتحدة - فى نظره - على مبادئ الحرية والديمقراطية، خارج الولايات المتحدة، فى الهندوراس ونيكاراغوا وغواتيمال والتشيلى وسواها فى أمريكا الجنوبية فضلاً عن النشاطات المشبوهة لـ CIA فى أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. وقد أثبتت الوثائق التى تم الكشف عنها مؤخراً مدى تورط الولايات المتحدة الأمريكية وجهاز استخباراتها فى الانقلابات والاضطرابات التى سادت أمريكا اللاتينية طوال عقدى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، وأن جهازها كان لا يتورع عن التعامل مع تجار المخدرات والمافيا الإجرامية من أجل زعزعة الأنظمة التى لا تعجب الولايات المتحدة.

وقد اعتبرت الإدارة الأمريكية، فى العام 1937م، أن الفاشية شبه متوافقة مع المصالح الاقتصادية الأمريكية، بما يعنى توافقها مع المفهوم الأمريكى للديمقراطية. وفى العام 1922م امتدح السفير الأمريكى فى إيطاليا تقدم موسولينى نحو روما، وهو الذى قضى قضاء مبرماً على الديمقراطية فى إيطاليا، وقد وصف السفير الأمريكى ذلك بـ «الثورة الجميلة والشابة»، وشرح لإدارته لماذا سيكون الفاشيون العامل الأقوى فى الضغط على البلاشفة ومواجهتهم. ومن ثم تمتعت إيطاليا الفاشية بوضع خاص لدى الإدارة الأمريكية فى حينه، وكانت أحد الأنظمة الأولى بالرعاية، ولا سيما فيما يخص تسوية ديون الحرب، ومن ثم الاستثمارات الأمريكية المتدفقة. وفى العام 1933م تحدث روزفلت عن موسولينى ووصفه بـ «هذا الجنتلمان الإيطالى .. اللطيف».

الصراع الدينى والحضارى والثقافى هو من سنن الحياة. هكذا كان الأمر عبر التاريخ وهكذا سيبقى، ولكن المميز فى هذه الحقبة أن المسلمين دون غيرهم من أطراف النزاع اعتبروا أنه صراع دينى، بينما نجد أن الغرب ذاته هو من دافع عن المسلمين ضد الصرب. إنه صراع بين من يريد أن يكتشف النجوم وبين من يريد أن يكتفى بعدّها. مع مد للجسور من احد الجانبين يمكن أن يقلل الهوة ويحل المشاكل وأكيد الكل يتحمل مسئولية هذا التوتر فمشكلتنا أننا لا نتقبل آراء الآخرين ومفروض علينا أن نقبل بأفكار قياداتنا فمتى سيأتى اليوم الذى نعترف به بحرية الرأى والتعبير فالذى يحرك الحكومات الديمقراطية هو مصالح وضغوط الأغلبية عندها. ومصلحة الغرب الآن هى نشر الديمقراطية عندنا، فعلينا أن نستغل الفرصة وألا نصغى إلى الأنظمة المهزئة. وهناك أسئلة تشغلنى: من أنقذ المسلمين فى البوسنة وكوسوفو وأفغانستان، والآن فى دارفور؟ إذا فعل أناس يدعون المسيحية فى مدننا ما فعل (إخواننا) فى نيويورك ومدريد وغيرها فما سيكون رد فعلنا؟ لماذا يضع الغرب وزنا لشعوبنا وهى أساسا عديمة الوزن سياسيا؟ حيث الحاكم أثقل سياسيا من ملايين المساكين.

إن المستقبل فى دول الربيع العربى سيؤدى إلى تحدٍ جديد للباحثين والمنظرين السياسيين، ويكمن ذلك التحدى فى نظرية سياسية استند إليها أساتذة العلاقات الدولية لشرح علاقة الدول يبعضها وحل الأزمات بينها وهى نظرية السلام الديمقراطى.

نظرية السلام الديمقراطى تشير إلى أن الدول الديمقراطية من الصعب جداً أن تتصادم وتدخل فى حرب بينها، كما يشير إلى ذلك الفيلسوف «عمئيل كانت». التعليلات التى يسوقها أصحاب هذه النظرية تكمن فى عدة محاور منها أن الدول الديمقراطية لا تقبل فيها الشعوب، وهى المقرر النهائى فى شئونها ومصدر الشرعية، لن تقبل بأن تخرج بلادها فى حرب ضد دولة ديمقراطية أخرى.

وأخيرًا نقول

الحق يستعصى على الهوى، فمن ملكه الحق ملك القدرة على أهوائه ورغباته، والباطل ينقاد للهوى، فمن ملكه الباطل غدا أذل الناس لأهوائه ورغباته، وبالإيمان يتميز الحق من الباطل، وبتوفيق الله تعرف رغبات الخير من رغبات السوء، وما لبَّس الشيطان على كثير من المتديِّنين رغبات السوء، على أنها رغبات الخير، إلا لأنهم حرموا نعمة التوفيق، فأسأل الله ألا يحرمك منه.

■ أستاذ القانون العام - جامعة طنطا