رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد فودة يكتب: فاروق حسنى.. صانع البهجة "التجريدية"

محمد فودة وفاروق
محمد فودة وفاروق حسني

لن أكون مبالغًا إن قلت إن المعرض السنوى للفنان فاروق حسنى المقام حاليًا فى قاعة بيكاسو بالزمالك قد تحول إلى حالة خاصة من الإبداع، بل إنه بالفعل حالة من الزخم شديدة الخصوصية، حيث عودنا الوزير الفنان على تقديم لوحات حتى وإن اختلف البعض حول تفسيرها، فإنها تمثل فى النهاية نوعًا مختلفًا من الإبداع التشكيلى الذي يأخذ من يشاهده إلى عوالم أخرى، حيث يفوح من جنباتها عبق الإبداع الراقى الذى يحمل خلف ألوانه معانى راقية وأفكارًا غير تقليدية تعبر بصدق عن نفسها من خلال حزمة ألوان يحرص دائمًا على تطويعها من أجل البوح بمكنون ذاته كفنان متميز فى مجاله.

لقد افتتح فاروق حسنى معرضه الأخير وسط حالة من البهجة والسعادة التى اكتست بها وجوه الجميع، وهى السعادة التى صنعتها الألوان والموسيقى وحضور عدد كبير من الفنانين والمثقفين والسياسيين والشخصيات العامة والمهتمين بالحركة التشكيلية فى مصر، حيث يضم المعرض نحو 43 عملًا فنيًا من أحدث أعماله الفنية التجريدية.

والمدهش فى هذا المعرض أن كل لوحة تحكى شيئًا مختلفًا عن الأخرى، فالفنان له حس تجريبى رائع جدًا، وهو ما يجعله دائمًا قادرًا على أن يقرب إلينا معاني أشياء لا يستطيع أحد منا حتى مجرد أن يفكر فيها، خاصة ونحن نقف أمام تلك اللوحات، ليس هذا وحسب، بل إنه يستطيع أيضًا أن يلمس قلوب الناس من خلال هذا السحر الفنى الذى يقدمه فى أعماله الفنية بمنتهى الرقة والبساطة، وهذا الأمر فى تقديرى الخاص لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة منطقية لنمط حياته الإبداعية، فأعماله الفنية يسبقها تحضير كبير داخل عقله، ومن ثم فإن تلك الأفكار التى تكون قد اختمرت داخل عقله نجدها تخرج على اللوحات فتضفى عليها جمالًا من نوع خاص، لأنه فى هذه الحالة نجده يخرج كل مشاعره فى هذه اللوحة، وبالتالى فإننا نرى أن لوحاته تصاحبها انفعالات روحية لا حدود لها، لذا فإنه من المنطقى أن نرى هذه المدرسة التى ينتهجها فاروق حسنى تحظى بتقدير خاص فى العالم الغربى بشكل كبير ولافت للنظر.

إن زيارة واحدة لأى معرض للفنان فاروق حسنى تجعلك على يقين من أن لوحاته تحمل بحق مشاعر متباينة وتساؤلات عديدة وسعيًا مستمرًا للتحرر، لدرجة أنه هو نفسه لم نره فى يوم من الأيام أقدم على القيام بتفسير تلك الحالة التى تملأ لوحاته، وذلك لقناعته الشخصية بأن الإفصاح يفسد الفن.. فالعملية الفنية من وجهة نظره طالما كانت حالة قائمة على المشاعر والعاطفة بالأساس يجب أن تظل كما هى دون تبرير أو تفسير، فعندما يبادر برسم لوحة فإنه يدخل وبمحض إرادته في منطقة ما بين الوعي واللاوعي، لذلك فالرسم من وجهة نظره هو عملية تحرر من كل القيود، وبالتأكيد هناك هواجس تطارد كل إنسان.. هواجس مرتبطة بفكرة الحلم والرغبة للوصول لمرحلة من الكمال الفني الذي لن يتحقق، وهناك أيضًا هواجس أخرى مرتبطة بالزمن والوجود والإنسان.

ولأن كل فنان تنعكس عليه بيئته، خاصة في المراحل الأولى التى تسهم فى تكوين شخصيته الفنية، فإن فاروق حسنى يتعمد دائمًا تجسيد البحر، وعلى وجه الخصوص اللون الأزرق فى جميع لوحاته لأنه من مواليد الإسكندرية وهى مدينة ساحلية وتتميز بوجود ثقافات متنوعة، وفي الفترة من منتصف القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين كانت مدينة فنية بامتياز.. فكان البحر هو المحاور الأول في طفولته وشبابه، وكانت هناك تساؤلات عديدة عن السفن القادمة من بعيد، وعن الضفة الأخرى من البحر، حيث أوروبا فحفرت بداخله رغبة ملحة في السفر واكتشاف ما وراء هذا البحر وأمواجه العاتية، فدفعه هذا الشعور نحو دراسة اللغة والثقافة الفرنسية، مما شجعه على خوض تجربة السفر، وبالفعل سافر وخاض التجربة التى كانت بالنسبة له أقرب لميلاد جديد.

والحق يقال أنه وعلى الرغم من أنه ظل وزيرًا للثقافة لمدة ٢٣ عامًا، فإنه منذ اليوم الأول لتوليه هذا المنصب حافظ على مساحة الفنان بداخله، بل إنه كان يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير بتأكيده لنفسه دائمًا على أنه في مهمة للحفاظ على تراث وحضارة مصر، وكان يردد دائمًا أنه لم يولد ليكون وزيرًا، بل ولد لكي يكون فنانًا، فالمنصب بطبيعته زائل ومؤقت أما الفن فمستمر ودائم.

هكذا يكون الفنان الحقيقى وهكذا يكون الفنان المتسق مع نفسه والمتصالح مع ذاته.. وهو ما لمسته بنفسى حينما كان فاروق حسنى يقيم معرضًا فى روما عام ،٩٢ وقتها كنت أقف بين الحاضرين للمعرض وشاهدت الإعجاب الشديد الذى كان واضحًا على الوجوه، فعلى الرغم من أن الجمهور الإيطالي كان يختلف عنا تمام الاختلاف من حيث الثقافة والطباع والعادات، فإنه تعامل فى هذا المعرض مع لوحات فاروق حسنى بهذا الإجلال وبتلك الحفاوة، وهو ما جعلنى أضع يدى على مسألة فى منتهى الأهمية، وهى أن الفن الحقيقى يصل إلى جمهوره أيًا كانت جنسية هذا الجمهور أو حتى قناعاته الفكرية، كما تأكدت وبما لا يدع مجالًا للشك أن فن فاروق حسنى ظهر ليبقى وليستمر وليظل باعتباره أحد أهم وأبرز ملامح الحركة التشكيلية، ليس فى مصر وحسب، بل فى العالم أيضًا، وهو الذى أصبح واقعًا ملموسًا بالفعل، لأن اسم فاروق حسنى يذكر على الفور حينما يتعلق الأمر بحركة الفن التشكيلى التجريدى فى العالم.