رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إعادة ترتيب النفوذ على الساحة السورية


شهد العام المنصرم ٢٠١٨ العديد من المتغيرات الفارقة، التى تعد بمثابة إعادة ترتيب كامل لمناطق النفوذ والسيطرة، على مجمل المشهد والأراضى السورية. حيث طرأت تغيرات عميقة بالنسبة لمختلف الفاعلين، يجعل الدخول إلى عام ٢٠١٩ مرشحًا بشكل كبير لأن تكون له معادلاته الخاصة، التى ربما تُصاغ للمرة الأولى منذ بداية الأزمة السورية فى عام ٢٠١١.
يمكن اعتبار المستفيد الأكبر من عام ٢٠١٨ هو «النظام السورى»، مقابل خاسر أكبر يمثله «تنظيم داعش». وما بينهما يوجد بالمشهد تفاوت صعودًا وهبوطًا فى مقدار الربح والخسارة، لدى «فصائل المعارضة المسلحة» التى تحظى بالحماية والدعم التركى، فضلًا عن المكون الكردى الذى يملك افتراضًا رعاية مماثلة من القوات الأمريكية، ممثلًا فى «قوات سورية الديمقراطية»، و«قوات حماية الشعب» كل على حدة.
فى البدء مع النظام السورى؛ نجده فى عام ٢٠١٨ استطاع بمعاونة حلفائه من روسيا وإيران أن يعزز إنجازاته العسكرية التى حققها فى عام ٢٠١٧. من خلال توسيع مناطق نفوذه الميدانى ونسبة سيطرته أمام بقية الفاعلين المحليين، حيث استقرت وفق أغلب التقديرات المعتمدة عند نحو ٦٠٪ من مساحة الأراضى السورية، مقارنة بالنسبة التى تحققت عام ٢٠١٧ والتى دارت حينئذ حول ما يقارب الـ٥٠٪ من ذات المساحة. نفذت القوات المسلحة السورية مجموعة من التحركات العسكرية الناجحة، أجبرت العديد من فصائل المعارضة على الدخول فى نظام المصالحات التى اعتمدها النظام. وشارك الجانب الروسى فى إتمام العديد من تلك الأخيرة، مما أضفى على الأمر العديد من المتغيرات النوعية التى أمنت للنظام قدرًا ذكيًا من النفوذ والسيطرة.
أبرز تلك المناطق التى عادت إلى أحضان النظام فى ٢٠١٨م، «حى القدم» على أطراف العاصمة دمشق، «مدينتى دوما وحرستا» فى الغوطة الشرقية، فضلًا عن القطاع الأوسط فيها. القلمون الشرقى وبعض مناطق جنوب العاصمة، تلتها مدن وبلدات ريفى حمص الشمالى وحماة الجنوبى. ثم بلدات داما والشياح وجدل فى ريف درعا الشرقى، أعقبه قرى وبلدات داعل فى ريف درعا الغربى، والصورة وعلما ودير سلط، ومليحة غربية ومليحة شرقية، فضلًا عن زحم والكرك، والغارية الغربية والشرقية، مع كحيل والمسيفرة، والحراك وجبيب والسهوة والمتاعية فى ريف درعا الشرقى. ثم انضم كامل الريف الشرقى فى محافظة درعا لسيطرة النظام السورى، بموافقة وفد «لجنة إدارة الأزمة» الذى شكلته فصائل المعارضة السورية وبعض القوى المدنية فى الجنوب فى مفاوضة أجرتها روسيا، أثمرت على اتفاق مصالحة شامل.
ثم انضمت بعد ذلك؛ درعا البلد وبلدة طفس بريف درعا الغربى لسيطرة النظام السورى، بعد توقيع اتفاق المصالحة بنفس الشروط التى تم توقيعها فى المنطقة الشرقية. ليعقبها انضمام مدن وبلدات ريف درعا الشمالى «الحارة، نمر، جاسم، برقة، زمرين وأم العوسج» لسيطرة النظام السورى، بعد اعتمادهم اتفاق المصالحة الذى جرى فى «مركز حميميم»، وتم فيه تقريبًا تطبيق نفس البنود التى جرت فى مدن شرق درعا. وفى هذا المركز أيضًا جرى إتمام ضم معظم مدن وبلدات محافظة القنيطرة، لكن هذا استلزم وحدة عملية عسكرية معقدة، نظرًا لوقوعها فى منطقة تتسم بحساسية بالغة لقربها من مناطق الجولان التى تحتلها قوات إسرائيلية.
فى مقابل مناطق سيطر عليها «تنظيم داعش»، تمكن النظام من استرداد كامل أحياء جنوب العاصمة دمشق، بعد أن وافقت قيادات «داعش» على الخروج من جنوب دمشق باتجاه «بادية السويداء» وتسليم المنطقة لقوات النظام السورى. كما تمكنت الأخيرة من استعادة السيطرة على حوض اليرموك، الذى كان خاضعًا لنفوذ «جيش خالد» الموالى لتنظيم «داعش»، حيث جرى اتفاق بين الطرفين تم بموجبه نقل حوالى ٤٠٠ من مقاتلى التنظيم باتجاه «بادية السويداء» أيضًا. بعدها جرى استرداد كامل «ريف السويداء الشمالى الشرقى» لسيطرة النظام السورى، بعد استعادته لمنطقة «تلول الصفا» التى مثلت آخر جيوب لتنظيم «داعش». جرى ذلك بموجب اتفاق يقضى بانسحاب التنظيم من المنطقة باتجاه «بادية تدمر» فى صفقة إطلاق سراح ١٧ مخطوفًا من محافظة السويداء.
ووفق هذا التحول الكبير الذى حققه النظام السورى باعتباره الرابح الأكبر، على مسار السيطرة واستعادة النفوذ، لا يمكن إغفال أن النظام السورى لم يكن ليصل إلى هذا الحد من الفاعلية الميدانية، لولا الدعم الكبير وذكاء السياسة الروسية فى سوريا، التى ركزت على الاستفادة من انشغال القوة العسكرية للولايات المتحدة فضلًا عن انكفائها وحلفائها نحو شرق الفرات. جدير بالذكر هنا أن التحرك الفعال الذى بذلته روسيا، جاء فى سياق قدرتها على رفع الغطاء السياسى عن المعارضة المسلحة، بغرض إجبارها على الانخراط فى نظام المصالحات الذى جرى فى مركز «حميميم». خاصة عندما بدأت تفتح لهم الآفاق كى تجد فيه عامل حماية جديد، يعوضها عن الحماية السابقة التى فقدتها بعد انحسار ما كانت الولايات المتحدة مسئولة عنه سابقًا.
ولم يتوقف الجهد والدعم الروسى على حد إجراء وحماية المصالحات بل كان هناك مسار موازٍ لا يقل أهمية عن سابقه، فيه أنجزت روسيا أيضًا فى عام ٢٠١٨ استعادة دور النظام كمركز رئيسى للأحداث والفاعلية، وجعل القوى الأخرى التى ما زالت تراهن على الحماية الدولية بمثابة أطراف. وقد ترجمت موسكو ذلك بتمكين النظام من استعادة الملفات السيادية، التى كان قد فقدها طوال سنوات الأزمة منذ عام ٢٠١١، وذلك من خلال السيطرة على الطرق الدولية والفرعية الواصلة بين المدن الرئيسية بعضها ببعض، وبينها وبين دمشق العاصمة. وجاء الأهم من وجهة نظرها وأحدث فارقًا فعليًا، هو استعادة السيطرة على المعابر الحدودية وإعادة تفعيلها، وإن كانت لم تكتمل لكنها قلبت معادلة السيادة بقوة لصالح النظام. وجرى أيضًا عمل مشترك مهم أثبت فاعلية معقولة بنهاية العام، نفذ داخل غرف العمل السياسية المشتركة الروسية والسورية، من أجل كسر عزلة النظام الدولية.
هذا ما يمكن إيجازه فيما يتعلق بالنظام السورى، الذى فعليًا يتمتع مع بداية العام بمقعد الرابح الأكبر. ومع غيره من أطراف الساحة السورية يدور حديثنا الأسبوع المقبل بمشيئة الله.