رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تعويض الخونة.. وإلا!


البجاحة فى أبشع صورها تجسّدت، يوم الخميس، فى قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلى بمعاقبة السلطة الوطنية الفلسطينية، لأنها رفضت تنفيذ قرار محكمة إسرائيلية بتعويض عملاء فلسطينيين، تم سجنهم لأنهم خانوا وطنهم وتجسسوا لصالح أعدائه.
العمالة والاحتلال، جريمتان لا تنفصلان، وأول ما يفعله المحتل الأجنبى، هو البحث عن عملاء له من أهل المناطق المحتلة. وعليه، كان أبرز سياسات التخريب التى مارسها الاحتلال الإسرائيلى، منذ البداية، قيامه بتجنيد بعض الفلسطينيين لخدمة مصالحه وسحبهم من الصف الوطنى. وبكل أسف، نجح فى إقامة شبكة من العملاء بينهم مَنْ أقاموا علاقات مكشوفة مع المخابرات الإسرائيلية وجهاز الأمن العام. وكانت هذه العلاقات مصدرًا للقوة والتأثير، بالضبط كما كانت مصدرًا مهمًا للدخل لدى تلك الفئة الضالة.
فئة ضالة من الفلسطينيين هانت عليهم أنفسهم، فهان عليهم كل شىء، ومع أن «مَنْ يَهُن، يسهل الهوان عليه»، كما قال «المتنبى»، إلا أن هؤلاء العملاء «أو الخونة» أقاموا دعوى قضائية طلبوا فيها من المحكمة الإسرائيلية، إجبار السلطة الفلسطينية على دفع ١٥ ألف شيكل «حوالى ٤ آلاف دولار» لكل واحد منهم، عن كل يوم قضاه فى السجن. غير أن المحكمة قامت بتخفيض الرقم إلى ٤٢٢ شيكل «١١٢ دولار» فقط، عن كل يوم، ليكون إجمالى قيمة ما توصف بـ«التعويضات» ١٣.٢ مليون شيكل، أى حوالى ٣.٥ مليون دولار.
مَنْ يَهُن، فى حكم الميت، و«ما لجرح بميت إيلام»، كما أضاف «المتنبى»، غير أن المحكمة الإسرائيلية رأت غير ذلك، وقررت تعويض العملاء «أى الخونة» عن الأضرار الصحية والعقلية الخطيرة التى أصيبوا بها، بسبب «تعذيب الأمن الفلسطينى لهم وإساءة معاملتهم». وفى الحيثيات قالت المحكمة إن تلك الإساءات شملت الصدمات الكهربائية، ووضع الملح على الجروح، والحرمان من النوم والغذاء ومن قضاء الحاجة و.. و.. إلخ. وردًا على عدم قيامها بدفع المبلغ، أصدرت السلطات الإسرائيلية قرارها، الخميس، بتجميد أموال من المفترض أن تقوم بتحويلها للسلطة الفلسطينية، بموجب اتفاقية أو بروتوكول أو «ملحق باريس».
ملحق باريس هو الاسم المتداول لبروتوكول العلاقات التجارية الذى تم توقيعه بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فى ٢٩ أبريل ١٩٩٤. وبعد تعديلات طفيفة، تم دمج الملحق «أو البروتوكول» كملحق خامس فى الاتفاقية المرحلية «اتفاقية أوسلو» التى تم التوقيع عليها فى ٢٨ سبتمبر ١٩٩٥. ونص هذا الملحق على أن تقوم الحكومة الإسرائيلية بتحويل حوالى مليون دولار سنويًا، إلى السلطة الفلسطينية هى نصيبها من ضريبة الدخل التى يدفعها الفلسطينيون، تجارًا أو عمالًا، للإسرائيليين. بالإضافة إلى تحويلات مالية أخرى كضريبة المبيعات أو القيمة المضافة أو رسوم الاستيراد على الواردات من الدول الثالثة. وهناك بند آخر يتعلق برسوم الضمان الاجتماعى التى يدفعها العمال الفلسطينيون للسلطات الإسرائيلية.
القانون الفلسطينى يجرِّم «التعامل مع الاحتلال»، وينص على ملاحقة الفلسطينيين الذين يتخابرون مع الإسرائيليين، وتتراوح العقوبة بين السجن إلى الإعدام. غير أن بروتوكول أو ملحق باريس افترض «أو اشترط» وجود علاقات اقتصادية بين الجانبين تسمح لـ٢٥٠ ألف عامل فلسطينى بالدخول والعمل فى المناطق الخاضعة لسلطات الاحتلال الإسرائيلية، إضافة إلى التبادل التجارى فى الاتجاهين. كما افترض «أو اشترط» أن «كلا الجانبين سيحاول الحفاظ على حركة عمالة طبيعية بينهما شريطة أن يكون لكل جانب الحق فى أن يُقرّر، من فترة إلى أخرى، حجم وظروف حركة العمالة إلى مناطقه».
بروتوكول أو «ملحق باريس» نص أيضًا، على «تشكيل لجنة مشتركة من الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى تجتمع كل ستة أشهر لتطوير بنود الاتفاقية، بما يتناسب مع الجانبين». والأهم، هو أن الاتفاقية نصت على أن تكون هناك فترة انتقالية، يعاد خلالها بناء الاقتصاد الفلسطينى، حددتها بخمس سنوات. ومع فشل الحكومة الفلسطينية فى إدارة الملف الاقتصادى، ومع عدم وجود استراتيجية أو خطط اقتصادية، وبالإضافة إلى عدم التزام الحكومة الإسرائيلية ببنود البروتوكول أو الملحق، واجهت السلطة الفلسطينية أزمة مالية خانقة، دفعت الرئيس محمود عباس، فى سبتمبر ٢٠١٢، إلى الاستجابة لمطالب الفلسطينيين، وأمر بإعادة النظر فى هذا البروتوكول أو الملحق. لكن، كالعادة، مرت سبع سنوات، دون أن تحدث إعادة النظر، وقد لا تحدث، حتى بعد قيام سلطات الاحتلال، بانتهاك الاتفاقية، انتقامًا للخونة!.
قوانين غالبية دول العالم، إن تكن كلها، نصت على أن التخابر مع الأعداء، جريمة كبرى، تستوجب أشد أنواع العقاب، حتى لو لم يقم الجاسوس «العميل أو الخائن»، بتقديم معلومات ذات قيمة. غير أن ما توصف بـ«إسرائيل» ليست دولة، وبالتالى تكون مخطئًا لو تعاملت بأى قدر من الجدية مع قوانينها الشكلية ومحاكمها الصورية، التى ترى الخيانة عملًا مشروعًا، يستحق عنه الخونة مكافأة من المستفيد وتعويضًا من المتضرر!.