رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسالة أب حكيم.. ورسالة زوج مُضحً


الأبوة ليست لقبًا تُمنح للإنسان ولا هبة ولا مظهرية خادعة ولا قرارًا يصدر، بل هى عطية من الله فى قلب الإنسان الذى يسلك بأمانة واستقامة. الأب يفتقر من أجل أن يحيا ابنه غنيًا، ويجوع من أجل شبع ابنه، ويتعرى من ثيابه من أجل كساء ابنه.
أعرض اليوم رسالتين، أولاهما رسالة لأب حكيم أرسلها لابنه الوحيد عندما بلغ سن الرُشد، فقدم له النصائح الأبوية الصادقة المستندة إلى خبرات فى الحياة اجتازها الأب وقدمها إلى ابنه. والأخرى لزوج مُضحٍ بتضحيات حقيقية اضطر أن يرافق شقيقه المريض فى رحلة سفره من الإسكندرية إلى القاهرة، وذلك بعد زواجه ببضعة أسابيع، وكم عبّر فى رسالته عن شدة اهتمامه بأخيه المريض ومدى حبه لعروسه الفاضلة.
الرسالة الأولى من الأستاذ أرنست الراهب- أحد المتخصصين فى الأعمال البنكية-وقد أرسلها لنجله الوحيد إسحق، الذى تعرفت عليه طوال فترة دراستى بكندا وما زلنا فى صداقة ومودة ومحبة حتى هذه اللحظة، وقد سلمنى الرسالة- فى فترة السبعينيات من القرن الماضى- التى تلقاها من والده المحبوب، وما زلت محتفظًا بها كنموذج لمنهج حياة من أب حقيقى لابن محبوب.
الرسالة بتاريخ القاهرة فى ٢٣ مارس ١٩٧١.. الرسالة تقول: «ولدى إسحق.. هذا هو يوم ميلادك. بل هذا هو يوم بلوغك سن الرُشد.. وهو يوم لن يتكرر فى عمر الإنسان. لذلك أزجى إليك فيه التهنئة الصادقة الصادرة من أعماق قلب أنت تعرف كم يُحبّك. ولست أهنئك على الأعوام التى انفرطت واحدًا تلو الآخر، فقد أصبحت فى خلفية الزمن بالنسبة لك.. وهى كذلك بالنسبة لكل إنسان حىّ.. إنها لا تصلح إلّا لأن تكون علامة من علامات التاريخ.. وسواء كانت هذه الأعوام مكتنزة أم عجافًا، فإن ما بقى من الأيام أقوى منها.. لأن الغد أقوى من الأمس.. وفى هذا اليقين يصح العزم على بلوغ هدف تخلفنا عن بلوغه.. فكم بالحرى وقد بلغت سن الرشد.
ولست أخالك تجهل أنك أصبحت الآن بكامل المسئولية عن كل ما يتعلق بمستقبلك، ومع ذلك فإن من واجبى أن أراقب خُطاك. ولذلك كان من واجبك أيضًا أن ترقُب خطانا.. لأننا أصبحنا الآن متساوين فى المسئولية.. وهذا يعنى أن عليك من الواجبات نحو أسرتك قدر ما على أسرتك من الواجبات نحوك.. وأريدك أن تتأمل هذه اللفتة بنظرة أكثر عمقًا وأعمق رشدًا، لأنك تستطيع أن تدرك الآن ما لم تكن مُطالبًا بإدراكه من قبل.
أى ولدى، لقد نضجت الثمرة وأصبحت قادرة على الإثمار.. وكم من الثمار تشتهيها النفس.. وكم من الثمار تغُصُ الحلق.. (ومن ثمارهم تعرفونهم) فأى ثمر لك؟! إن الأرض إن لم تُعزق لا تصلح للإنبات.. والنبات إن لم يُروَ لا يصلح للإثمار.. فهلا بذلت من جهدك ما يكفى لعزق أرضك.. وهلا أعطيت من عرقك ما يكفى لرى نباتك؟.. هذا اليوم لك.. والغد أملك.. فلا تجعل يومك يضيع دون أن تصل به إلى أملك.. ولتسندك ذراع القدير الذى يفتح ولا يستطيع أحد أن يغلق.. لأنه لا يهملك ولا يتركك. (استيقظى يا ريح الشمال، وتعالى يا ريح الجنوب، هُبى على جنتى فتقطر أطيابها).. هكذا ينشد سليمان متوسلًا إلى ذاك الذى يستطيع أن يأمر الريح فتسكت والموج فيهدأ. فليكن هذا نشيدك.. نشيد النفس التى أسلمت ذاتها إلى القدير ولم تعصِ وصاياه. وهو ذا داود ينشد فى مزموره الأول (طوبى للرجل الذى لم يسلك فى مشورة الأشرار وفى طريق الخطاة لم يقف، وفى مجلس المستهزئين لم يجلس. لكن فى ناموس الرب مسرّته، وفى ناموسه يلهج نهارًا وليلًا.. فيكون كشجرة مغروسة عند مجارى المياه، التى تعطى ثمرها فى أوانه، وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينجح).. والدك».
أما الرسالة الثانية فهى من أب مضحٍ ومحب، وهذا الأب هو أبى- الذى أعتز به وبكل أعماله الجليلة وبكل تضحياته النبيلة- وقد اضطر أن يصطحب أخاه «حنا» المريض إلى القاهرة، وذلك بعد زواجه السعيد ببضعة أسابيع، وزوجته هذه «حنونة» هى أمى الفائقة الأمومة والتضحية أيضًا، وأشكر الله أنى كنت باكورة زواجهما السعيد.
والرسالة بتاريخ القاهرة فى ٢٦ أكتوبر ١٩٤٩ قال فيها: «حنونة، شقيقة الروح، وزوجتى العزيزة، إنى أشعر بالفرح الزائد، حينما أنتزع من وقتى غير الرتيب الذى ارتفعت فيه الروح عن المادة، ووجبت التضحية وزالت الأنانية بدافع من الإنسانية قبل أن تكون فرضًا يُحتمه الواجب للعناية بأخى حنا المريض، وهو فى مصر بين قوم غرباء لا يدرى كيف يقرر مصير العلاج بنفسه، ولا يحس غير العطف الذى أحوطه به. وهو بذلك مطمئن وهادئ ومُستسلم. أقول إنى أشعر الآن بالفرح الزائد حينما أكتب لكِ أولى رسائلى فى تاريخ حياتنا من بدء تعارفنا الذى باركه الرب بزواج سعيد بإذن الله. وأصارحك القول إنه غير هيّن على نفسى أن أغترب عنكِ وأترككِ مدة طويلة يشعر كلانا فيها بالضيق والوحشة. بيد أنى مدرك أنك مطمئنة بين أهلى وأهلك وأدعو الله أن يمنّ على حنا بالشفاء العاجل، إنه على كل شىء قدير. ختامًا أبثّك أشواقى مع حُبى الخالص.. زوجك: بديع عبدالملك».
وفى نفس المظروف أرسل برسالة إلى خالى العزيز، الأستاذ عبدالملك نقولا، قال فيها: «أخى عبده.. أهديك خالص التحية وأرجو أن تكون والعروسة على خير ما ترجوان من الصحة والسعادة. وأن يكون لهذا الزواج المبارك ثمرة حياة هانئة طيبة.
أخى، تسلمت اليوم رسالتك وإنى شاكر لك جُل اهتمامك بى وعنايتك بزوجتى المحبوبة، وأنا عنها بعيد لفترة أرجو ألا تطول للعناية بعلاج أخى حنا. ورجائى فى هذه الحال أن تُلبى طلبات حنونة حتى أعود إليكم بإذن الله فى القريب. المخلص: بديع عبدالملك».
نماذج رائعة رأيناها فى حياتنا، نشكر الله أننا عشنا جيل العمالقة وتركوا لنا أمثلة حية بأعمالهم الطيبة. لقد حفروا فى الحقيقة سيرتهم الرائعة وأعمالهم الحسنة على الصخر، بينما آخرون كتبوا أعمالهم على صفحة المياه!!