رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو .. والمعادلة الاستراتيجية الإقليمية والدولية ؟


الاستراتيجية الأمريكية التى يتعـين عليها إدراك أن مصر هى الوسط فى الموقع والدور، والوسط فى النظرة والتفكير والوسط فى الحرب والسلام، فهل يمكن أن تتراجع الولايات المتحدة عن تسليم سوريا للجماعة بعـد أن تأكدت من انهيار حكم المرشد فى مصر؟

كان من الضرورى تأصيل مفاهيم مصطلحات الشرعـية والمشروعـية والثورة الشعـبية والانقلاب العـسكرى فى المقال السابق، كنقـطة انطلاق طبيعـية لتناول الموضوع، حيث أثارت التفاعلات التى سبقت وصاحبت وأعـقبت أحداث 30 يونيو جدلا واسعا صاحبه ردود أفعال متباينة، فقد توالت ردود الأفعال العربية والإقليمية والدولية على المستويين الرسمى والشعـبى، ودار هـذا التباين حول ما إذا كان هـذا الحدث يُعـتبر ثورة شعـبية أم انقلابا عـسكريا، وقد خلص المقال إلى أن العالم بأسره كان إزاء نموذج رائـع لثورة شعـبية كاملة الأركان، قدمت فيها جموع الأمة المصرية نموذجا فريـدا فى التعـبئة والحشد السلمى لم تشهده البشرية من قبل وأظنها لن تشهده من بعـد، وفى هذا المقال سنتناول تأثير هـذه الثورة فى المعادلة الاستراتيجية الدولية، مع الوضع فى الاعـتبار أن المعادلة الدولية والإقليمية تتداخلان فيما بينهما وتتفاعلان مع بعـضهما وتؤثر كلُ منهما فى الأخرى وتتأثـر بـالأخرى، مع الوضع فى الاعـتبار أيضا أن كلتا المعادلتين تتسمان بسرعة وكثافة وتتـابع وتراكم تفاعلاتها.

ويتعـين أن نبدأ بالولايات المتحدة بحكم أنها تمثل القطب الوحيد فى عالم اليوم وتتربع على قمته وتقود تـفاعلاته حيث قامت بتقسيم العالم إلى عـشرة أقاليم، لكل إقليم قيادة مركزية، وما يهمنا هنا هو إقليم الشرق الأوسط الكبير الذى جعلت مكوناته وحـدوده تـتـطابــق مـع حــدود ومكونات العـالـم الإسـلامـى، بعـد استبعـاد إثيوبيا لتكون رأس مكونات إقليم القـرن الأفريقى الكبير، كما ينبغى أن نشيـر أيضا إلى أن سيـاسـة وأهـداف الولايـات المـتـحــدة الأمريكـيـة فى إقـليـم الشـرق الأوسـط الكبير سـتـظـل ثـابـتــة لا تـتـغـير، ولـكـن الـذى يـمكن أن يـتغـير هو تقـيـيـم هذه الأهـداف وإعادة ترتـيـب أولويـاتها، ويترتب عـلى ذلك تغـيير أدوات تحقيق هذه الأهـداف التى يمكن إيجازها فى الآتى: إذ يتمثل الهدف الأول وهو الأهم فى حتمية التواجد فى الموقع الجيوستراتيجى الفريـد للإقليم، الذى يمثل قلب العالم القديم، ويضمن لها الوصول والبقاء والتحرك فى بحار ومحيطات وخلجان المنطقة «البحرين الأحمر والمتوسط، والمحيط الهندى والأطلنطى، والخليج العربى وخليج هورمز وعـدن وغـيـرها من المسطحات المائية المهمة، والسيطرة عـلى المنطقة من خلال قواعدها البحرية أو التسهـيلات البحرية ومراكز القيادة والسيطرةُ التى تُنشئها فى بعـض دول الشرق الأوسط ودول الخليج، مما يساعد عـلى الحفاظ على موقع الهيمنة وعـدم زحزحته خارجها، و يترتب الهدف الـثانى على الأول، وهو ضمان وصـولها إلى مصـادر المعـادن الاستراتيجـيـة فـى أفريقـيا من خـلال تواجدها فى المنطقة، خاصة الكوبـالت والبلاتـينيـوم، والنـيـكل كـروم، والمنجنيـز وغيرها «على سبيل المثال تنتـج الكونغـو الديموقراطية وحدها 56% بينما تنتج زامبيا 16 % من الإنتاج العالمى من هذه المعادن، كما تعـتبر زامبيا أكبر دولة منتجة للنحاس فى العالم» أما الهدف الثالث فهو العمل على استمرار تدفق البترول العربى إليها وإلى حلـفـائها فى الغـرب واليابان بالمعـدلات التى تضمن استمرار تحـقيـق الرفاهـيـة الصناعـية، بالرغم من أن الولايات المتحدة تنتج 65 % من احتياجاتها من البترول، وبالرغم من اكتشاف أكبر خزان عملاق فى العالم حتى الآن فى أراضيها، إلاَ أنها تحافظ على علاقات متميزة مع دول الخليج ذات الموقع المهيمن على الأذرع المائية الممتدة داخل المحيط الهندى، أما الهدف الرابع فيمثل التهديد الحقيقى والذى تخشاه الولايات المتحدة وهـو السعى الدءوب إلى منع قيـام قـوة إقلـيميـة أو عالمية تنازعها الهيمنة على الساحة الدولية، أو تشاركها فى قيادة تفاعلات العالم، وتكـون قـادرة على التحـكم فى العالـم الإسلامى الذى يمثل لها قلب العالم، وأخيرا يأتى الهدف الخامس والأخير وهو ضمان أمـن وسلامـة إسرائيـل التى ترتبط معها برباط استراتيجى وثيق يكاد يكون عـضويا، إلى الحد الذى أعـلـن فيه أوبـامـا مؤخـرا أنـه على استعـداد أن يضع إسرائيل تحـت المظـلة النووية الأمريكية لحمايتها من أى تهديد نووى.

فإذا كانت هذه هى أهداف الولايات المتحدة فى إقليم الشرق الأوسط الكبير، فكيف تؤثر ثورة 30 يونيو فى تحقيق هذه الأهداف؟ وللإجابة عن هذا التساؤل ينبغى الإشارة إلى الإدراك السياسى الأمريكى والمصرى، إذ يمكن ملاحظة أن الإدراك السياسى الأمريكى لم يضع فى اعـتباراتـه حتى الآن التناقض الحادث فى المعادلـة الاسـتـراتيجـية الدولية، وهذا التناقض يكمن فى انفراد الولايـات المتحدة بالنفوذ السياسى على الساحة الدولية، وتمتع قـواتها المسلحة بالمكانة الأولى فى العالم، وبالرغم من ذلك فهناك تراجع فى مكانتها الاقتصادية والاجتماعـية أمام القوى العـملاقـة الأخرى، وهو ما يشيـر إلى بـدء اختلال المعادلـة الاسـتـراتيجـية الدولية القائمة على أحادية القطبية سياسيا وعـسكريا من ناحية، وتعـدد الأقطاب اقتصاديا واجتماعـيا من ناحية أخرى، وفى المقابل فقد وضع الإدراك السياسى المصرى فى اعتباراته هذا التغـيير الذى بـدأ يطـرأ فى بنيان النظام الدولى الراهن الناتج عـن تناقض هـذه المعادلـة، ويبدو أن الإدراك المصرى قد وضع فى الاعـتبار أثناء تقدير الموقف الاستراتيجى الإصرار الروسى عـلى عـقد مؤتمر جنيف الثانى بشأن المسألة السورية وفقا لشروط روسيا وعزمها عـلى بقاء بشار الأسد فى السلطة، وهو ما يُعـد انتصارا حقيقيا لها، الأمر الذى يشير إلى أنها ماضية فى طريقها لاستعادة مكانتها الدولية لتكون الوريث الشرعى للاتحاد السوفييتى السابق عـن استحقاق، وهو ما يتعارض مع مبدأ الولايـات المتحدة الذى يقضى بعـدم قبولها نشوء قـوة عالمية تنازعها مركز الهيمنة وقيادة تفاعلات العالم، أو مشاركتها النفوذ على الساحة العالمية، إذ يمثل بقاء بشار الأسد فى سدة الحكم انهيارا كاملا للاستراتيجية الأمريكية، خاصة فيما يتعـلق ببنيان الشرق الأوسط الجديد، خاصة فى المنطـقة التى ترتكز عليها الاستراتيجية الأمريكية عـلى الدول المتشاطئة عـلى البحر المتوسط، حيث تهدف الولايات المتحدة إلى تسليم سوريا إلى التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين بعـد تدمير جيشها، وبذلك يلتحم عـقد هذه الدول تحت نظام حكم واحـد تستطيع السيطرة عـليه، وتتكون هذه الدول من تركيا شمالا وسوريا ولبنان وإسرائيل، ثم حماس ومصر وليبيا وتونس وصولا إلى الجزائر، ولكن غالبا ما تأتى رياح البحر المتوسط بما لا تشتهى سفن الاستراتيجية الأمريكية، فقد انفصلت اللؤلؤة التى تربط عـقـد هـذه الدول ليبدأ انفراطه، انفصلت مصر بعـد ثورة 30 يونيو المجيدة، فأخذت الولايات المتحدة تلوح بورقة المساعـدات العـسكرية والمدنية بغـباء شديـد، ناسية أنها قد خسرت كثيرا عـنـدما فـقـدت مصر بعـد صفـقـة الأسلحة التشيكية الشهيـرة عام 1955 ولم تعـد إليها مرة أخرى إلاَ بعـد أكثر من عشرين عاما، إلاَ أنها تراجعت سريعا بعـد أن أدركت أن مصر هى الوسط الذهـبى للشرق الأوسط الصغـيـر كما حددته بريطانيا العـظمى من قبل أو الشرق الأوسط الكبير كما تريده الاستراتيجية الأمريكية التى يتعـين عليها إدراك أن مصر هى الوسط فى الموقع والدور، والوسط فى النظرة والتفكير والوسط فى الحرب والسلام، فهل يمكن أن تتراجع الولايات المتحدة عن تسليم سوريا للجماعة بعـد أن تأكدت من انهيار حكم المرشد فى مصر؟ وهل يمكن أن تتراجع أمام صيحة الدب الروسى أو أمام صحـوة التنين الصينى؟ أم ستظل على غـيها تتعامل بمنطق القوة وغياب كامل للقيم والأخلاق، هذا هو التصور الذى أطرحه للنقد والتحليل عن تأثير ثورة 30 يونيو فى المعادلـة الاسـتـراتيجـية الدولية، وفى مقال الأسبوع المقبل سنناقش تأثيرها فى المعادلـة الاسـتـراتيجـية الإقليمية بإذن الله.

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.