رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أقباط مصر فى عام 1956


فى يوم الثلاثاء ١٣ نوفمبر ١٩٥٦ رحل عن عالمنا البابا الأنبا يوساب البطريرك الـ١١٥، وكان أقباط مصر فى ذلك اليوم يعانون من مخالفات كنسية منذ ديسمبر ١٩٢٨ برسامة الأنبا يؤانس، مطران البحيرة والمنوفية بطريركًا ١١٣ ثم تبعه الأنبا مكاريوس مطران أسيوط بطريركًا ١١٤ ثم تبعه الأنبا يوساب مطران جرجا بطريركًا ١١٥.
كانت مجلة «مدارس الأحد» هى الصوت الصارخ والمعبر عن قوانين الكنيسة وتقاليدها، فجاء فى افتتاحية المجلة بعدد ديسمبر ١٩٥٦ والتى كان يرأس تحريرها رجل القانون الأول د. وليم سليمان قلادة «١٩٢٤- ١٩٩٩»، فكتب يقول: «الراعى الصالح أمل الكنيسة الذى تترجاه منذ عشرات السنين. كنا ننتظره من بعيد، ونصدقه، ونحييه، ونهلل له، ونؤمن بتحققه. وأخذ الكل يردد: لو أن راعيًا جاء يُعيد تقاليد الآباء، ويجدد ما كانوا يصنعونه من أجل التعليم والرعاية والخدمة، لو أن الله أرسل إلينا قديسًا حقيقيًا، ورجلًا بارًا، وإنسانًا ملهمًا، لتمت المعجزة، وتحقق الإصلاح، ووُلدنا من جديد. هذا هو إيمان الشعب، وهو رجاؤه الذى يعيش من أجله وأمله الذى يحيا به». وفى أمانة كاملة وجهت المجلة عدة نداءات لأقباط مصر: «١» إن الراعى الصالح حق لكل ابن من أبناء الكنيسة- ينبغى أن يتمسك به، ويحرص عليه، ويعمل من أجل مجيئه. «٢» هل سيحاول البعض أن يعطل إرادة الله، ويمنع إقامة الراعى الأمين؟. «٣» هل سيحاول البعض أن يتحالف مع الشيطان فيعمل على أن يكون البطريرك القادم على غير ما يرجوه أبناء الكنيسة؟. «٤» ذلك ما ننزه عنه كل ابن فى هذه الكنيسة، إن رجاءنا هو أن تكون الكنيسة كلها فكرًا واحدًا، تجمع على أن تتوافر فى الشخص الذى يُقام كل مؤهلات هذه الرتبة الجليلة. «٥» إن الآثار التى تترتب على اختيار شخص غير جدير بهذه الرعاية لا يمكن إحصاؤها. «٦» إن حياة الكنيسة لمدة سنوات طويلة مقبلة تتوقف على إقامة هذا الشخص، من أجل ذلك فإن مسئوليتنا رهيبة لأن آلاف الأشخاص سيهلكون أو سيخلصون بسبب هذا الراعى. «٧» مسئولية هلاكهم أو نجاتهم تقع على رأس كل من يعمل على تسليم الكنيسة للشر والفساد. «٨» ما أرهب الجزاء الذى يصيب من يجرؤ على تزييف إرادة الله وخداع شعبه وتحطيم كنيسته.
وكان رأى المجلة- فى ذلك الوقت- أن الشعب كله سيمضى فى وحدة تامة من أجل أن يُقام الراعى المبارك، الشعب كله وعلى رأسه مطارنته وأساقفته. وقد أصبحت هناك عقيدة يقينية، آمن بها الشعب كله وصارت لديه إحدى البديهيات: «إن الراعى القادم يجب ألا يكون من بين الأساقفة أو المطارنة». لقد آمن الجميع بهذا المبدأ، وأصبح مؤكدًا لدى كل ابن للكنيسة أن الحرم هو جزاء كل من يخالف هذا المبدأ الكنسى، فمن يرشح نفسه ولديه رتبة الأسقفية أو المطرانية، ومن ينتخب واحدًا من هؤلاء لرتبة البابوية، هذا وذاك جزاؤهما الحرم.
ونبهت المجلة إلى أنها تنتظر من مجمع الكنيسة المقدس أن يصدر فورًا هذا القرار، وأن يذكر ما أعلنه البابا خائيل «٧٤٤- ٧٦٨» البطريرك ٤٦، حين قال: «السيف أو النار أو الرمى إلى الأسود أو النفى أو السبى- فما يقلقونى، ولست أدخل تحت ما لا يجب، ولا أدخل تحت حرمى الذى كتبته بخط يدى وبدأت به، أن لا يصير أسقف بطريركًا. فكيف يجب أن أحرم نفسى، وأحلل اليوم ما حرمته بالأمس، وما أنكرته أمس أرضى به اليوم، وما أنكره الآباء القديسون قبلى أقرره الآن؟».
ثم شددت المجلة من تأكيدها على أن الشعب كله يعتبر الأسقف أو المطران الذى يرشح نفسه لهذه الرتبة، كما يعتبر الشخص الذى يوافق على هذا الترشيح- يعتبرهما معًا محرومين طبقًا لقوانين الكنيسة المقدسة.
الراعى القادم ينبغى أن يكون، كما قال القديس بولس الرسول: صاحيًا عاقلًا محتشمًا بارًا ورعًا- لا طامعًا بالربح القبيح، ولا محبًا للمال- مضيفًا للغرباء، محبًا للخير. إن راعينا الأعظم يجب أن يكون قديسًا بكل ما فى هذه الكلمة من معنى وقوة، وأن يجمع إلى الروحانية العميقة الأصيلة العلم والثقافة ليواجه احتياجات العصر ومشاكل الحياة المتجددة.
قضى الشعب فترة نحو ٣ سنوات «نوفمبر ١٩٥٦ - مايو ١٩٥٩» فى صوم وصلاة ودموع لينعم الله على الكنيسة بأب صالح يقود الكنيسة بالمحبة والصلاة. دبر الله قائمقام بابوى شجاعا هو الأنبا أثناسيوس مطران كرسى بنى سويف والبهنسا «١٨٨٣- ١٩٦٢»، فكان أمينًا جدًا على قوانين الكنيسة، فمنع المطارنة والأساقفة من الترشح للكرسى المرقسى، واقتصر الترشح على الرهبان فقط. وشاء الله أن يكون المختار هو الراهب مينا البراموسى المتوحد الذى أقيم أسقفًا على الإسكندرية فى ١٠ مايو ١٩٥٩ باسم البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦، والذى اتسم عهده طوال فترة بطريركيته «مايو ١٩٥٩- مارس ١٩٧١» بالصلاة والأبوة الفائقة والحكمة النازلة من السماء والرعاية الحسنة لكل أبناء مصر، أقباطًا ومسلمين، فكان منفذًا لقول داود النبى «أما أنا فصلاة»، فكانت حياته صلاة من فجر اليوم- الرابعة صباحًا- حتى مساء اليوم، تتخللها جلسات أبوية وسط أبنائه مستمعًا إلى مشاكلهم، مسددًا لاحتياجاتهم الروحية والجسدية أيضًًا، سالكًا بنسك حقيقى. فانتشرت روح التقوى بين أقباط مصر وانشغل الأقباط بحياة الصلاة. وبعد رحيله المحزن فى ٩ مارس ١٩٧١ عادت المخالفات الكنسية مرة أخرى!!.