رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرب على هواوي



سباق التسلح الرقمى، والحرب التكنولوجية الباردة، والصراع على المستعمرات الرقمية، وأسباب وشواهد أخرى كثيرة، تمنعنا من تصديق مزاعم جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، بأنه لم يشارك فى قرار إلقاء القبض على منج وانزهو، المديرة المالية لشركة «هواوى»، وابنة مؤسس الشركة الصينية العملاقة.
السلطات الكندية قامت بإلقاء القبض على «وانزهو»، أول ديسمبر الجارى، بناء على طلب من «واشنطن». والخميس، أكد «ترودو» للصحفيين، فى مونتريال، أن السلطة القضائية فى بلاده تتمتع بالاستقلال، وأنها اتخذت القرار دون أى تدخل سياسى. ورفض أن يدلى بمزيد من التوضيحات، التزامًا بقرار حظر النشر. وبينما قال المتحدث باسم الخارجية الصينية إن كندا والولايات المتحدة لم توضحا، بعد، سبب إلقاء القبض عليها، ذكرت جريدة «جلوب آند ميل» الكندية، أن هناك اشتباهًا فى انتهاكها العقوبات الأمريكية ضد إيران، وتواجه احتمال ترحيلها إلى الولايات المتحدة. والسبب نفسه، ذكرته جريدة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، فى حين أكدت السفارة الصينية فى كندا أنها لم «تنتهك أى قانون».
ما يجعل كلام «ترودو» مخالفًا للواقع، ويجعل الاتهام الذى ذكرته الجريدتان وغيرهما، مجرد «غلوشة» أو محاولة للتعتيم على السبب (أو الاتهام) الأساسى، هو أنه بعد ثلاثة أيام من إلقاء القبض على «وانزهو»، تحديدًا يوم الثلاثاء ٤ ديسمبر الجارى، ظهر ديفيد فينيو، رئيس جهاز المخابرات الكندى، فى خطاب علنى، للمرة الأولى، ليقول إن التهديدات الإلكترونية الخارجية للأمن القومى تمثل تحديات استراتيجية لبلاده بدرجة أكبر من الإرهاب، وطالب بضرورة التعامل معها. واتهم أجهزة مخابرات دول معادية بأنها تجمع معلومات سياسية واقتصادية وتجارية وعسكرية فى كندا. موضحًا أن جهاز المخابرات الكندى رصد أنشطة تجسس ترعاها دول معادية فى مجالات التكنولوجيا النظيفة وشبكة الجيل الخامس. ومع أن «فينيو» لم يذكر أسماء تلك الدول «المعادية»، إلا أن وسائل إعلام عديدة ذكرت أنه يقصد الصين.
كلام رئيس المخابرات الكندية، يرجّح أننا أمام واحدة من جولات «سباق التسلح الرقمى» أو إحدى حلقات «الحرب التكنولوجية الباردة» بين الولايات المتحدة والصين، للسيطرة على العالم «رقميًا». وفوق ذلك، فإن الواقعة تثير الشكوك فى جدية هدنة الـ٩٠ يومًا فى «الحرب التجارية الباردة»، التى اتفق عليها الرئيسان الأمريكى والصينى، دونالد ترامب وشى جين بينج، فى العاصمة الأرجنتينية، بوينوس أيرس، فى اليوم نفسه الذى تم فيه إلقاء القبض على «وانزهو». مع ملاحظة أن حالة «هواوى» يذوب فيها الفارق بين الحربين الباردتين، التكنولوجية والتجارية، إذ كانت الشركة الصينية، قد تفوقت على «أبل» الأمريكية، فى الربع الثانى من العام الجارى، ٢٠١٨، وفى الربع الثالث عززت موقعها كثانى أكبر شركة للتليفونات المحمولة، بعد «سامسونج»، العملاق الكورى الجنوبى.
شركات التكنولوجيا الصينية، إجمالًا، تخضع لتدقيق شديد من واشنطن وحلفائها، خوفًا من إمكانية استغلال بكين لها فى التجسس. غير أنها تعاملت مع «هواوى» بشكل مختلف، وبات فى حكم المؤكد أن الشركة الصينية تواجه ضغوطًا متزايدة من الولايات المتحدة وحلفائها لإيقاف نموها، بدأت بمنعها من العمل فى السوق الأمريكية، ولن تنتهى بحظر أستراليا ونيوزيلندا استيراد معدات من الشركة، تخص شبكات الجيل الخامس للمحمول، بعد أن طالبت الولايات المتحدة الدول الحليفة بإقناع مزودى الخدمات اللاسلكية والإنترنت فيها، بالتخلى عن أى أجهزة تصنعها شركة «هواوى»، مقابل أن تقوم الحكومة الأمريكية بتوفير البدائل، مع وعود بزيادة المساعدات لتطوير الاتصالات فى تلك الدول.
امتثالًا للمطالب أو الأوامر الأمريكية، تخطط الحكومة اليابانية لحظر شراء أى أجهزة من «هواوى»، بزعم تعزيز دفاعاتها فى مواجهة تسرب المعلومات والهجمات الإلكترونية، طبقًا لما نقلته وكالة «رويترز»، الجمعة، عن مصدرين وصفتهما بأنها مطلعان، وأكدته، فى اليوم نفسه، جريدة «يوميورى» اليابانية، التى توقعت أن تقوم الحكومة اليابانية، الإثنين المقبل، بتعديل قواعدها الداخلية للشراء وستضع معايير تهدف إلى تعزيز الأمن. وبعد أن امتنع المتحدث باسم الحكومة اليابانية عن التعليق، اكتفى بالإشارة إلى أن اليابان على اتصال وثيق بالولايات المتحدة، بشأن مجموعة كبيرة من المجالات بما فى ذلك الأمن الإلكترونى.
الخلاصة، هى أن الولايات المتحدة تريد، بمساعدة حلفائها، الاحتفاظ بتفوقها الرقمى، ولا تريد أن تنازعها الصين فى مستعمراتها الرقمية. ومن محاسن الصدف، أننا كنا قد أوضحنا، الثلاثاء قبل الماضى، فى مقال عنوانه «سباق التسلح الرقمى»، أن انفجار وسائل الإعلام الرقمية جعل هذا السباق يأخذ أشكالًا أو صورًا متعددة. وتوقفنا عند مصطلح «السيادة الرقمية» الذى يعبر عن قدرة الدولة على تطوير وسائل دفاعية وهجومية للسيطرة على بياناتها وبيانات مواطنيها. كما توقفنا، أيضًا، عند مصطلح «المستعمرات الرقمية» الذى أطلقه الفرنسيون، وهم يعلنون رفضهم لأن تكون دولتهم بين الدول الواقعة تحت الاحتلال الرقمى الأمريكى، ثم الصينى.