رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حدود مناورة إسرائيل في الجنوب اللبناني



بإعلان إسرائيل عن بدء انطلاق عملية «درع الشمال» العسكرية، أيًا كانت أهدافها أو ما ستذهب إليه الأحداث مستقبلًا، فهى حققت بذلك نقطة سبق، كانت تحتاجها. كى تنزع عن «حزب الله» القدرة على مباغتتها، بعمل عسكرى أو بهجمة خاطفة تزعم استخباراتها العسكرية، أنها تملك معلومات مؤكدة على كونها كانت وشيكة التنفيذ فى نطاق الشمال الإسرائيلى. وقد أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلى «جادى إيزنكوت» إطارها العسكرى مساء الثلاثاء، بقوله: «اليوم بدأنا بحملة ضد أنفاق حزب الله، لتحييد المخاطر الأمنية التى تعكسها إيران علينا».
الزج باسم إيران فى حديث رئيس الأركان، سبقه اللقاء الذى عد بمثابة توثيق وتأطير للمسارات الإسرائيلية، والذى جرى على نحو مفاجئ الأحد بين رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو فى بروكسل، شارك فى الاجتماع أيضًا «يوسى كوهين»، رئيس مجلس الأمن القومى الإسرائيلى. فى نهاية الاجتماع صدر بيان، باعتبار أنه تناول جهود الحد من النشاط الإيرانى فى المنطقة، بما فى ذلك فى لبنان والعراق.المؤكد أن نتنياهو بادر إلى الاجتماع؛ من أجل إحاطة الولايات المتحدة علمًا، بأن بدء أعمال كشف الأنفاق، يمكن أن تتحول إلى حرب كبرى. من دون أن يحدد كيف سيتطور العمل العسكرى على الأراضى اللبنانية، لكن الواضح أن الحديث كان يدور عن سوريا، باعتبار أنه أضاف لها لبنان والعراق كنقاط ارتكاز إيرانى. واختيار نتنياهو للحلقة اللبنانية، ربما يترجم رغبته فى عدم الدخول مع روسيا، فى تعقيدات تكبح خططه العسكرية، فى حال اختار سوريا كساحة للعمل العسكرى، الذى اختبرها قبلًا عشرات المرات منفردًا ضد ذات الأهداف التى يسير نحوها اليوم.
على الأقل يمتلك نتنياهو، الذريعة التى تمكنه من تسويق العمل الجزئى ضد «حزب الله»، وهى الصور الاستخباراتية التى اطلع عليها بومبيو، لأنفاق عميقة قام الحزب بحفرها معتقدًا أن إسرائيل لن تكشفها. والأخيرة تمكنت بتقنيات حديثة من كشفها، البعض منها فى منطقة «المطلة»، وأخرى فى جنوب «كفر كلا»، واعتبر الجيش الإسرائيلى أن تلك الأنفاق الهجومية، فضلًا أنها تشكل تهديدًا حقيقيًا يمكن أن يطال الشمال الإسرائيلى بسهولة، قد تتيح لنتنياهو الحصول على غطاء سياسى أمريكى طلبه نتنياهو صراحة فى الاجتماع المشار إليه. ومن ثم ممارسة ضغوط دولية على الحكومة اللبنانية، وعلى حلفاء وأوراق إيران بالمنطقة. الحقيقة أيضًا؛ أن لدى نتنياهو حزمة دوافع إضافية تعجل هذا الإعلان عن العملية العسكرية، أهمها إجراء ترميم سريع للصورة السياسية التى تشكلت فيما بعد خروج ليبرمان من الحكومة. هذا بالخصوص مرتبط بمعادلة الداخل الإسرائيلى، فالشريحة التى رأت نتنياهو يقطع زيارته الخارجية ليعود إلى تل أبيب، وينصاع إلى ما طلبته مصر من وقف فورى للعمليات العسكرية بقطاع غزة، على إثر ذلك خرج وزير الدفاع من الائتلاف الحكومى وغادر منصبه.
نتنياهو وهو يراقب مزايدة ليبرمان عليه فى مسألة توفير الأمن لمستوطنات الجنوب، وذهابه إلى ضرورة الانخراط بعمق أكبر فى العمليات العسكرية ضد الفصائل فى القطاع، جعل نتنياهو فى احتياج الآن إلى الإمساك بعصا الحماية العسكرية، حتى لا توجه له داخليًا سهام من نوع التخاذل أو مواءمة الاعتبارات السياسية. ويبدو فى ظلال مشهد «درع الشمال» أن العدو الإيرانى هو الأسهل فى الاستدعاء، ربما بأكثر مما يمكن أن يكون عليه الوضع بالنسبة لحماس. على الرغم من أن خطوات الجيش شمالًا قد تبدو محفوفة بالمخاطر، فى حال انفلت الأمر من أى من الأطراف الحاضرة، والتى يملك كل منهم قائمة طويلة من الكوابح تدفعهم للتحسب من شبح الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مباشرة. لذلك جاء التأكيد الإسرائيلى المعلن من اللحظة الأولى، أن الأعمال التى تنفذ هى داخل المناطق الإسرائيلية، وأن حزب الله أو حكومة لبنان، لا يوجد لهما أى حجة للادعاء بأن إسرائيل تعمل على أرضهم، أو تقوم بأعمال عدائية.
على الجانب الآخر؛ هناك رغبة محمومة لدى جناح داخل إسرائيل، يسعى لتوافر ذريعة ما من أجل توسيع العمليات داخل أبعاد أعمق على الأراضى اللبنانية، من أجل استهداف النشاط الإيرانى الموازى، فى إقامة مصانع لتصنيع صواريخ عالية الدقة تنضم لترسانة «حزب الله» الصاروخية. والذى يؤكد هذا الجناح بأنها قد وصلت إلى ما بين ١٢٠- ١٥٠ ألف صاروخ، جميعها جاهزة للتشغيل وموزعة على أماكن عدة فى لبنان غير مقصورة على الجنوب وحده. لذلك ينظر هذا الجناح إلى تصريح «حسن نصر الله» الأسبوع الماضى، بأن المواجهة العسكرية القادمة مع إسرائيل ستقع على أراضيها وداخل حدودها، باعتباره جديًا إلى حد كبير، وله دوافع تتعلق بالجبهة السورية وما يتعرض له هناك من إسرائيل ذاتها. ويجرى دومًا استدعاء ما أعلنه «حزب الله» قبل بضع سنوات، من أن قواته العسكرية تدرب وتعتزم احتلال منطقة «الجليل»، وسرب حينها مجموعة من الخرائط قيل عنها إنها «خريطة عمليات». والتى ظهر من خلالها أن حزب الله يعتزم التسلل إلى إسرائيل عبر عدة طرق من الشمال للجنوب، واحتلال جزء كبير من الجليل الغربى والشرقى، فى المنطقة الواقعة بين المطلة ورأس الناقورة. أخذت إسرائيل حينها هذه الخطة على محمل الجد، واستطاع الجيش نتيجة لذلك انتزاع موافقة على تمويل حكومى كبير، حيث تقرر إقامة حاجز محصن على الحدود الشمالية، يجعل من الصعب على عناصر «حزب الله» اختراق الحدود بعملية برية.
«حزب الله» ذهب إلى حفر أنفاق تصل إلى شمال إسرائيل، التفافًا على هذه الحواجز التى صعبت من مهمة التوغل البرى لتنفيذ ضربات، لكن يبقى التهديد الصاروخى الذى لن تتمكن الدفاعات الإسرائيلية، مع توافر ما يمتاز منها بدقة التصويب، من وقف تهديده الحقيقى على الأهداف العسكرية والمدنية على السواء. لذلك تبقى مساحات المناورة أمام كلا الطرفين- وإسرائيل بصورة أكبر- محدودة، وسياسية بأكثر منها القدرة على تحقيق متغيرات عسكرية ذات شأن. إلا فى حال انزلاق مفاجئ قد لا يتحسب له الطرفان، وهو حتى اللحظة مستبعد إلى حد كبير، فكل منهما يعرف عن الآخر، ما يمكنه أن يلجم هذا النوع من المغامرات.