رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

روسيا داخل سيناريو أوكرانى ملغم


اشتعلت الأزمة بين روسيا وأوكرانيا بعد قيام البحرية الروسية باحتجاز سفينتين حربيتين وقاطرة تابعة للبحرية الأوكرانية مع أطقمها
جاء تصويت البرلمان الأوكرانى لصالح الموافقة على فرض قانون الطوارئ، بمثابة استعداد كييف لفصول قادمة من التصعيد، فى مواجهة دفع مقابل لحدة التوتر من جانب موسكو، عبّر عنه الحادث الأخير الذى ما زالت تفاصيله عالقة قيد الاحتجاز الروسى. الإجراء الأوكرانى يعد الأول بهذا المستوى منذ استقلالها عن الجمهورية السوفيتية السابقة عام ١٩٩١، وكلمات الرئيس بوروشنكو فى خطابه المتلفز الموجه للشعب الأوكرانى، جاءت على ذات النغمة مبررًا تقدمه بهذا الطلب للبرلمان، بعد تقدير أن الحالة تشهد «وجود تهديد مرتفع للغاية» مع إمكان حصول «هجوم برى روسى».
سفينتان حربيتان وقاطرة تابعة للبحرية الأوكرانية هى التى فجّرت تلك الحالة التى عبّر عنها الرئيس الأوكرانى، بعد أن قامت البحرية الروسية باحتجازها مع طواقمها البالغ عددهم ٢٠ من العسكريين البحارة. والاحتجاز بطريقته الخشنة التى نفذها الروس، عبر استخدام النيران الحية وتنفيذ مجموعة مناورات سريعة، من أجل إتمام عملية الاستهداف.
ودفعت التقديرات الأولية إلى الذهاب بأن العملية مرتبة سلفًا من قِبل البحرية الروسية، خاصة أن هذا العبور الذى تعللت موسكو بأنه غير قانونى، ويمثل انتهاكًا للمياه الإقليمية الروسية قبالة القرم، هو عبور روتينى لـ«مضيق كيرتش» الواصل بين البحر الأسود وبحر آزوف. المعلومات تفيد بأن من نفذ تلك العملية الروسية، هى قوات حرس الحدود التابعة لجهاز الأمن الفيدرالى الروسى «FSB». حيث يعد هذا الجهاز الأمنى، هو هيئة الأمن الرئيسية فى روسيا والأكثر اعتمادًا واقترابًا من الكرملين، باعتبار مسئولياته الرئيسية تتضمن مكافحة التجسس وأمن الحدود الداخلية، فضلًا عن مكافحة الإرهاب والمراقبة والتحقيق فى أنواع أخرى من الجرائم الكبرى، وخروقات القانون الاتحادى الروسى. إجمالًا وواقعيًا هذا الجهاز الأمنى، هو الوريث الشرعى المعلوم لـ«لجنة أمن الدولة» التى تعود لحقبة الاتحاد السوفيتى، بالنظر إلى أنه يحتل نفس المبنى الذى كانت تشغله «اللجنة» السابقة، فى ميدان «لوبيانكا» وسط العاصمة موسكو.
النيران الروسية أوقعت ستة جرحى من البحارة الأوكرانيين، ومعادلة الانتهاك الذى تحاول موسكو تسويقها كذريعة للفعل الهجومى، هى أوضاع جديدة ترى كييف أنها مستجدات فى سلسلة من التحرشات الروسية الخشنة. فمضيق «كيرتش» ممر استراتيجى بالنسبة لكييف لن تتحمل العبث الروسى به، بالنظر إلى أهميته البالغة وحيويته بالنسبة لأوكرانيا، حيث تعتمد الأخيرة على بحر آزوف فى صادراتها من الحبوب والفولاذ، اللذين يمثلان الدخل الرئيسى لكييف والثروة الحقيقية للشرق الأوكرانى. وهذا ما جعل التقديرات الأوكرانية تذهب للحديث عن مطامع روسية ظاهرة للعيان، فى هذا الشرق لتلحقه بجزيرة القرم المستولى عليها.
قانون الطوارئ يدخل حيز التنفيذ صباح الأربعاء فى أوكرانيا، ويشمل نحو ١٠ مناطق حدودية، على وجه الخصوص مع روسيا وبيلاروسيا ويضم مساحة كبيرة من جانب بحر آزوف. وسيتيح هذا القانون على مدى شهر وفق ما تضمنه للسلطات الأوكرانية، أن تقوم بتعبئة مواطنيها وتنظيم وسائل الإعلام والحد الاحترازى من التجمعات العامة. هذا الفصل يعد التصعيد الثانى فى مشهد المواجهة المفتوحة ما بين موسكو وكييف، منذ اندلاع النزاع المسلح فى أوكرانيا بين الجيش الأوكرانى وقوات الانفصاليين الموالين لروسيا، حيث شهد الفصل الأول حينها فى عام ٢٠١٤ سقوط ما يزيد على ١٠ آلاف قتيل. هذا دفع فلاديمير بوتين إلى طلب وساطة ألمانية من المستشارة أنجيلا ميركل، لنزع فتيل الأزمة بالضغط على أوكرانيا، خاصة بعد أن حذر كييف بعد ساعات من إعلانها حالة الطوارئ، من القيام بـ«أعمال متهورة». وهو تكتيك روسى يدير به الكرملين التصعيد وليس طلبًا حقيقيًا للوساطة، فما هو بادٍ من مسار الأحداث أن الفصل سيشهد مزيدًا من الأحداث، فى ظل استمرار احتجاز السفن الأوكرانية لدى الجانب الروسى، وتسريب الأخير لوسائل الإعلام الروسية أخبار العثور وضبط شحنات أسلحة وذخائر على متن تلك السفن، فضلًا عن وثيقة تتضمن تعليمات مباشرة بالعبور الخفى خلال مضيق «كيرتش».
على الجانب الروسى أيضًا، تضع موسكو الولايات المتحدة فى موقع المحرض ومدير الاستفزاز الأوكرانى على حد تعبيرها. وأن الأمر يأتى فى سياق ملف العقوبات المفروضة على روسيا، وما سيشهده الاحتشاد الأمريكى الأوروبى فى مواجهة هذه الحالة سيشهد لاحقًا ربطًا لها بملف العقوبات، ودخول «حلف الناتو» سريعًا على خط إطلاق التصريحات المعلقة على الحادث، يعد بمثابة تمهيد إعلامى لرص صفوف دول الحلف فى الموضع المعد لها سلفًا، بعد أن اعتبر الأمين العام للحلف «ينس ستولتنبرج» أن ما حدث يوم الأحد الماضى «خطير جدًا» على حد تعبيره. ولهذا جاءت المبادرة الروسية السريعة بطلب الوساطة الألمانية، من أجل محاولة شق هذا الاصطفاف ولو باستهلاك بعض من الوقت، وفى الأصل من أجل كبح أى تهور عسكرى تلمح موسكو، أن الولايات المتحدة تعتزم إدارته من الخلف.
حيث ترى روسيا هى الأخرى أن حادث السفن ليس عفويًا، خاصة مع تواجد عناصر من الاستخبارات العسكرية الأوكرانية على متن السفن المحتجزة، بل أصيب أحدهم بإصابات بالغة جراء النيران الروسية، مما دفع «فاسيلى جريتساك»، رئيس جهاز الأمن الأوكرانى، إلى تناول هذا الأمر، بقوله «إن ضباط المخابرات كانوا يؤدون مهام تتعلق بمكافحة التجسس، على أحد التشكيلات البحرية الأوكرانية وذلك وفقًا للتعليمات المرعية فى جهاز الأمن الأوكرانى». مؤكدًا أيضًا أن إحدى الطائرات الروسية الهجومية أطلقت صاروخين غير موجهين على السفن الأوكرانية، وهذا ما أوقع الإصابة بأحد الضباط ومجموعة من الجنود البحارة.
كلا الطرفين وفق تلك المعطيات، يقف بالقرب جدًا من الحافة. والعديد من الإجراءات واستعدادات رد الفعل غير مسبوقة فعليًا، وكما كانت شبه جزيرة القرم مربوطة بصورة أو بأخرى، بملفات أخرى كانت وما زالت تُدار فى مناطق متفرقة من الخريطة الاستراتيجية للعالم، فإن حادثة «مضيق كيرتش» ربما لديها ذات الملامح، ما يجعلنا اليوم أمام كل الاحتمالات والدوافع لدى جميع الأطراف، ربما للذهاب بعيدًا حيث المساحات الأكثر خشونة، والأقرب فاعلية لتسويات أخرى ما زالت حائرة لم تر بعد كلمة النهاية، أو التوافق، أيهما أقرب.