رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسائل إنسانية فى حجة الوداع«٢-2»


- الدين هو الخلق فمن زاد عليك فى الخلق زاد عليك فى التدين.. فى آخر حجة الوداع قال النبى كلامًا مؤثرًا: «حَياتِى خَيْرٌ لَكُمْ ومَمَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ»

أثناء الصعود إلى يوم عرفة، وكان يوم جمعة، قال النبى: من حج فلم يرفث ولم يفسق عاد كيوم ولدته أمه، و«حج مبرور ليس له جزاء دون الجنة». أثناء الوقوف على عرفة ما توقف عن التضرع لله والدعاء والثناء على الله، ظل يردد يومها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير.
بعد العصر استقبل القبلة، فلم يزل واقفًا يدعو حتى المغرب، يقول النبى: «خير يوم طلعت عليه الشمس.. خير الدعاء دعاء يوم عرفه.. أكثر يوم تعتق فيه الرقاب».
خطبة الوداع توافر فيها كل أنواع المكانة العالية: أشرف مكان، أشرف وقت، أشرف يوم، أشرف ناس، أنقى وأقدس أرض ووقت ويوم وناس، ألقاها النبى فى ثلاثة أماكن: أمام الكعبة، فى عرفة، فى منى، وأخذ يكرر نفس الكلام، وكأنه يقول: أنا لدى كلام محدد، حتى فى منى لم يكن هناك مكان يجمع فيه كل الناس حتى يسمعوا، فكان ينتقل من مكان لآخر بين خيم الحجاج، يقول نفس الكلام، وهذا تأكيد على أهميته.
هذه الخطبة تضمنت مبادئ الإسلام الكبرى، تحتوى على أهداف ومقاصد الإسلام الكبرى، وهى بمثابة وثيقة لحقوق الإنسان، سبقت دساتير العالم، كإعلان عالمى لمبادئ الإنسانية.
المبدأ الأول: أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا. كأن المعنى الحرمة مركبة مغلظة وليست بسيطة. لم يقل أيها المسلمون، بل قال أيها الناس، لكونها مبادئ لكل البشرية.
تضمن هذا المبدأ: حرمة الدم والمال والعرض، لأنها ضمان لاستقرار المجتمع الذى لا يقوم إلا بحماية هذه العناصر الثلاثة، والمعنى: كل مكان أو زمن يحدث فيه قتل.. هو حرام حرام حرام، كأنك قتلت فى مكة فى يوم عرفة.. وكذا الاستيلاء على أموال الناس، كأنك أكلت أموالهم يوم عرفة، والخوض فى أعراض الناس وهتك سترهم والتشهير بهم، كأنك فعلت ذلك يوم عرفة، ثم قال: «ألا هل بلغت اللهم فاشهد».
المبدأ الثانى: إن دماء الجاهلية موضوعة، أى انتهت.. سامحوا لا تطالبوا بها، وأول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن عبدالمطلب ابن عم النبى، الذى قتل فى الجاهلية، فسامح فيه النبى، وإن ربا الجاهلية موضوع، لو لك مال عند أحد فيه ربا.. اتركه.. سامح فيه.. وإن أول ما أبدأ به ربا عمى العباس بن عبدالمطلب.. وإن مآثر الجاهلية موضوعة.. التعالى والتفاخر.. أوقفوا ذلك.. بدلها بالتسامح والعفو.. كل الجاهلية موضوعة إلا السدانة والسقاية، لم يلغ كل ما هو قادم ممن قبله.. تسامح دينى.
المبدأ الثالث: «أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى إلا بالتقوى، لا فضل لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط، ألا هل بلغت اللهم فاشهد».. تعايش ومساواة وعدم عنصرية بين البشر بصرف النظر عن دينهم أو جنسهم أو لونهم أو عرقهم، هذا ما قاله النبى قبل حقوق السود فى أمريكا بـ١٢٠٠ سنة، وقبل عنصرية التنظيمات الدينية المتشددة.
المبدأ الرابع: مبدأ عن المرأة، «أيها الناس.. إن لنسائكم عليكم حقًا، إنما النساء أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله فى النساء واستوصوا بهن خيرًا، ألا هل بلغت اللهم فاشهد».. أكبر غضب لله إيذاء امرأة، فكر جديد لم يعرفه العالم عند الارتباط بالمرأة.. أنت أخذتها بأمان الله.. هدية من الله لك. ثم قال فليبلغ الحاضر الغائب، لأن أغلب الغائبين نساء.
المبدأ الخامس والأخير: أيها الناس أتدرون من المسلم؟، المسلم من سلم الناس من لسانه ويده. أيها الناس أتدرون من المؤمن: المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، أيها الناس أتدرون من المهاجر: المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
تعريف للدين الإسلامى بأنه دين الأخلاق الإنسانية.. والإسلام هو مسالمة الناس والإيمان.. هو الأمانة للأموال والأعراض.. الإسلام هو الأخلاق.. التدين ليس شكلًا.. الدين هو الخلق فمن زاد عليك فى الخلق زاد عليك فى التدين. فى آخر حجة الوداع قال النبى كلامًا مؤثرًا: «حَياتِـى خَيْرٌ لَكُمْ ومَـمَاتِـى خَيْرٌ لَكُمْ».
رجع النبى للمدينة، وأثناء ذلك توفى رأس المنافقين عبدالله بن أبى بن سلول، فى مرضه عاده النبى، ولما مات أراد النبى أن يصلى عليه الجنازة، فوقف عمر أمامه: لا تصل عليه يا رسول الله.. لا يستوى هذا مع المؤمنين، فقال له: دعنى يا عمر: فوالله لا ينفعه صلاتى إن كان الله غاضبًا عليه ولكن أريد أن أرفق بقومه.
ثم أراد النبى أن يكفنه فى قميصه، فعاد عمر، فقال النبى: دعنى يا عمر، وكفنه النبى فى عباءته، لأنه فى يوم غزوة بدر أسر العباس عم النبى، وكانت ثيابه مزقت فى الحرب، وكان طويلًا جدًا فأرسل عبدالله بن أبى بن سلول ثيابه للعباس لأنه كانت بينهما تجارة وكان طويلًا مثله، فلم ينسها له النبى وكافأه بها فى موته فكفنه فى عباءته.