رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جولة فى مرسم فاروق حسنى.. كيف يصنع الفنان لوحاته؟

جريدة الدستور

تمثل الحالة الإبداعية للفنان فاروق حسنى، الذى شغل منصب وزير الثقافة ٢٤ عامًا خلال الفترة من ١٩٨٧ إلى ٢٠١١، لغزًا كبيرًا، ففى الوقت الذى يرى فيه كثير من غير الدارسين والمواطنين العاديين أن لوحاته غامضة لا تحمل أى معانٍ، يقول آخرون إنها تنتمى لتصنيفات فنية متنوعة، على رأسها ما يعرف فى الفن التشكيلى بـ«اللا شكل» التجريد، لذا حظت تجربته بالكثير من الدراسات النقدية، واستمرت معارضه تحقق حضورًا على الساحة الفنية المحلية والدولية.

خصوصية هذه الحالة الإبداعية تدفعنا للتساؤل عن الطقوس الخاصة التى يلتزم بها فاروق حسنى عند بدئه مشروعًا فنيًا جديدًا «لوحة»، بدءًا من تشكل الفكرة فى وجدانه حتى وضعه اللمسة النهائية، وتجعلنا شغوفين بالتعرف عن قرب على ما يتضمنه «المرسم» الخاص به.

فى السطور التالية، تكشف «الدستور» أهم هذه الطقوس، وتسترجع مع الفنان العالمى مشاهد من طفولته الأولى فوق أمواج بحر الإسكندرية، ومن بينها إنفاقه عوائد بيع لوحاته على شراء أسطوانات الموسيقى الكلاسيكية، وكانت أهم هواياته آنذاك قيادة المراكب الشراعية فى الأمواج الصاخبة والرياح العاتية.

يرسم على أنغام الموسيقى فوق الأرض أو منضدة.. ونادرًا ما يستخدم «الحامل»

هنا مرسم فاروق حسنى، حيث تتراص أنابيب وبرطمانات متنوعة من ألوان «الأكريلك» بدقة وبتتابع جذاب، وعدد كبير بأحجام متنوعة من فرشات التلوين وأدوات الرسم، وهى التى يستخدمها عندما تنتابه حمى المواجهة مع «الكانفاس» المسطح الأبيض المسجى أمامه على منضدة أو يفترش الأرض، فهو نادرًا ما يستخدم «حامل الرسم».. و«الكانفاس» هو مسطح اللوحة قبل الرسم.
ما أن يبدأ الرسم، يباغت لوح «الكانفاس» بضربات سريعة بفرشاة مليئة بالألوان، حريصًا فى الوقت ذاته على سماع الموسيقى بصوت مرتفع حتى تمده بالطاقة اللازمة لإخراج ما فى داخله من رؤى، ثم يدخل فى حالة توحد كاملة مع اللوحة، مثله مثل الأباطرة السرياليين القدامى، الذين ما أن تحضرهم لحظة الإلهام وتتملكهم الرغبة، لا يدركون أيًا مما يحيط بهم.
وتختلف ألوان فاروق حسنى عن تلك التى يستخدمها غالبية الفنانين المصريين، فهى ليست «أرضية» من أنواع «الأكاسيد» الرصينة لدرجات البنى والأوكرو الزيتونى والذهبى والأزرق، فهى شمسية المذاق، وقمرية الإحساس، تتمتع بسطوعها المبهر والصافى، وبضوء يشع من داخلها.
«أحيانًا عند عودتى بالسيارة من الخارج، يتجلى أمامى لون معين أو كلمة ما أو لحن يدفعنى أن أقول: (سوف أدخل المرسم) وأستعجل الزمن للحاق بهذه المشاعر قبل أن تذهب».. بهذه العبارات يكشف الفنان الكبير عن «أشياء» تدفعه للدخول إلى المرسم، ليتحسس بعدها بأنامله «الكانفاس»، ويختار منها ما يريد ويناسب الفكرة التى تجول بخاطره. يوضح: «الكانفاس الأبيض أصعب شىء، لأنه حاد وعنيف ومحيّر، لذا أبدأ فى التفاعل معه وفحصه، ثم أختار الحجم والشكل وما ستكون عليه، أفقية أم رأسية»، لكن فى بعض الأوقات تواجهه أزمة فى اختيار الحجم: «أختار مجموعة بنفس هذا الحجم، وقد ألجأ أحيانًا وسط معالجتى لها إلى تناول لوحة مختلفة عن البقية، باعتباره نوعًا من التحدى».
لا يحدد اللون الذى سيبدأ به لوحته من البداية. يقول: «أجلس أتأمل فى مجموعة الألوان الموجودة أمامى، إلى أن تلتقط يداى لونًا منها، وفى أحيان أخرى أبدأ فى خلط عدة ألوان حتى يخرج اللون الذى أختاره أو أحسه كى أبدأ به العمل الفنى»، مشيرًا إلى أن ضرباته على «الكانفاس» دائمًا ما تكون سريعة، وتتشابه فيها حركة يده وجسمه مع الحركة الإبداعية. ويوضح: «أكون سريع التفاعل مع الكانفاس، ويكون معى فى المرسم أحد الأفراد العاملين بمكتبى لمساعدتى على تناول الألوان أو الفرشاة ويقوم بتنظيفها لاقتصار الزمن حتى لا تضيع الأفكار». وكما أنه لا يحدد اللون منذ البداية، لا يضع فاروق حسنى خطة مسبقة للدخول إلى المرسم: «أنا لا أبدأ بخطة مسبقة، وإنما أواجه الموقف، وتكون اللوحة وليدة هذا الموقف وبصمة اللحظة، بل أتعمد مفاجأة نفسى فى العمل حتى أضمن تحقيق هذه المفاجأة»، لافتًا إلى حرصه على الاقتراب والابتعاد عن اللوحة، بل نقل اللوحة نفسها من مكان إلى آخر أثناء العمل فيها. يبتعد عن اللوحة ويقترب، يقف ويتأمل، يبدو كأنه يخاطب ما خطته يداه، ثم يأخذ فترة من الراحة بعض الشىء، ويسمع الموسيقى بصوت مرتفع، وهى أمور تجعله «يدخل فى حالة انصهار كامل مع العمل الذى يرسمه، ويجعله عبارة عن كتلة متوهجة ما بين الموسيقى والألوان وذاته».
وما أن ينتهى الجدل مع العمل الفنى ويلقى بالفرشاة، يعود لينظر إلى اللوحة بطرف عينيه ويسأل: هل اكتملت أم لا؟، وبعد فترة يعود لها ويمسك فرشاة جديدة ولونًا آخر ويبدأ فى التعامل معها من جديد. يقول: «بعدما أنتهى من اللوحة أنفصل عن نفسى لوهلة وأصبح شخصًا آخر، ثم أعود إليها لأرى إن كانت تتطلب شيئًا ما، فى بعض الأحيان (أقول خلاص)، وفى أخرى أعاود تأملها حين تستدعينى، فأقتحمها من جديد لتحقيق الحل النهائى، وأنهى ما بها من نقص، ثم أضع عليه توقيعى».
لا يشعر بالزمن.. يرى أن أعماله تتضمن ما لا يراه الآخرون.. ويرفض اعتبارها غير مفهومة

ينعزل فاروق حسنى خلال فترة وجوده فى المرسم دون شعور بالزمن، وهو ما يوضحه قائلًا: «أثناء وجودى فى المرسم لا أشعر بأى شىء وأكون منعزلًا تمامًا. أكون فى نصف وعيى لكن تفكيرى متيقظ، فأرسم بنصف الوعى الغائب وأفكر فى العمل بعقلى الواعى». ويعتبر أن الرسم يسرق منه الزمن، إذ «تعتقد أنك جلست فى المرسم ساعة ويكون مر عليك ٣ أو ٤ ساعات دون أن تشعر».
يُشبّه الفنان العمل الفنى بـ«الروح» التى من الممكن أن يدخل معها فى خصام: «فى بعض الأوقات يحدث خصام بينى وبين اللوحة، وأشعر بأنه ليس بيننا أى عاطفة، فأتركها، ومن الممكن أن أعود لها بعد شهر أو أكثر وأستعملها باعتبارها لوحة جديدة تمامًا، بألوان وإحساس ومشاعر أخرى، أو قد أضع عليها لمسة عظيمة تكون لها البطولة فى المسطح».
وعندما تتأمل لوحاته تجدها تشبه الموسيقى الراقصة، ولعل ذلك ما يفسر اقتران الموسيقى بحالته الإبداعية، التى يقول عنها: «سماع الموسيقى أثناء عملى فى المرسم يدفعنى لأن أُخرج كل ما بداخلى فى حركات موسيقية على مسطح اللوحة». ويدافع عما يتردد من كون لوحاته غير مفهومة قائلًا: «حينما تنظر إلى أىّ من أعمالى تجده يحتوى على مجموعة نغمات ورقصات وأحاسيس متأججة وعاطفة جياشة، فأنا أرسم اللا موجود، لكنه بالنسبة لى محسوس، لأنى أرى ما لا يراه الآخرون». ويوضح: «الطبيعة بداخلى وليست خارجى، وهو ما يجعلنى أرسم ما بداخلى من رؤى وأجمعها فى العمل. لوحاتى ليست بها حكايات بل عواطف، فمن يبحث عن حكاية لن يجدها، ومن يبحث عن تبادل عاطفى سيخرج سعيدًا عقب مشاهدته اللوحة، إذ إن أعمالى تتضمن إحساسًا كليًا بالأشياء من خلال التجريد وليس التشخيص، فلوحاتى تعتمد على التجريد الحركى»، معتبرًا أن: «الناس بدأت تتفهم أسلوب رسمى».
ويقول: «أعمالى وجدانية بحتة وليست بمضمون أدبى، ولا يمكن وصفها بالكلام، وهى متأثرة بالموسيقى والبحر والصحراء، وكذلك المدن التى أقمت فيها بعض الفترات مثل روما وباريس»، معتبرًا أن الإلمام بالفلسفة والثقافة بشكل عام لا يؤثر على الرسم، ومعرفتهما تكون للذات فقط، وللمساعدة على تقييم الأشياء، بجانب المساعدة فى إخراج مقاييس العمل الفنى. ويقر بأن لوحاته لا تحمل قضايا معينة، بقوله: «ليست لدى رسالة موضوعية ولكنها عاطفية، من خلال لوحات بصرية ووجدانية، لا أذهب فيها وراء قضايا معينة، وأهتم بقضية الجمال فقط». ويصله هذا للحديث عن المدرسة الفنية التى ينتمى إليها، قائلًا: «التجريدية، التى تعنى (المطلق)، وهو ما لا يجعلنى أفكر فى موضوع محدد للرسم، فالمضمون يعبر عن إيقاعات داخلية تخرج وتختار البقع والمساحات والخطوط وكل ما يتعلق باللوحة»، مضيفًا: «أستقبل الموسيقى وأرسلها مجسدة فى مساحات لونية وخطوط رمزية». وعن الألوان التى يستخدمها، يقول: «فى بعض الأوقات تكون بها قوة لونية لدرجة العنف، لكن هذا ليس بشكل مستمر، كما أن هذه القوة والحرية يتمثلان أيضًا فى حركة فرشاة على المسطح، دون تخوف من إفساد العمل الفنى»، مضيفًا: «لوحاتى بريقها متغير من الألوان، التى تتناثر نقاطًا تتلاحق وتتقاطع بعضها مع البعض الآخر»، وكأنه يذكرنا بألوان مصر وطبيعتها، فالرمال بنية، وصخور الصحارى بيضاء، وسحب السماء زرقاء كثيفة، وضفتا النيل خضراوان، والبحر المتوسط بلونه الكوبالتى، وغيرها من نقاط المحيط اللونى الساحر لمدن وقرى مصر.
كان يبيع أعماله وهو طفل وينفق عائدها كاملًا على المراكب أسطوانات الموسيقى الكلاسيكية

واحدة من أهم العوامل المؤثرة فى الحالة الإبداعية للفنان فاروق حسنى تتمثل فى طفولته المبكرة وقضائه إياها فى عروس البحر المتوسط، الإسكندرية، حيث كان عاشقًا للموسيقى والجمال على إطلاقه. يقول: «منذ أن كنت طفلًا عشقت الموسيقى، وكنت أنفق كل ما لدىّ من أموال على شراء أسطوانات الموسيقى». ويضيف: ««تعلقت بالرسم والموسيقى منذ أن كنت طفلًا، وكنت أشترى بعائد لوحاتى التى أبيعها فى الصغر أسطوانات موسيقى، بسبب عشقى لها، إلى أن بقيتْ رفيقة لى على مدار الحياة وفى كل خطواتى».
ويشير إلى أنه فى فترة الطفولة اختلف عن زملائه وأصدقائه، إذ كان يذهب لزيارة الأماكن الأثرية، وعلى رأسها قلعة قايتباى، حيث يجلس خلفها ويتأمل فى البحر بصخبه وجماله: «تعلقت بتأمل البحر، لونه ورائحته وتعامله مع طيور النورس التى تطير بشكل موسيقى للغاية كأنها سيمفونية البحر والنورس، وعشقت استقلال المراكب الشراعية للاستمتاع برؤية جمال الطبيعة».
وأنفق «فاروق» الغالبية العظمى من مصروفه الشخصى وعائد لوحاته لاستقلال هذه المراكب، بهدف تأمل البحر وجمال الطبيعة، وبات صديقًا للطبيعة والموسيقى بالإسكندرية، إلى أن أصبحت رغبة فى التنقل والسفر لزيارة المعابد والمقابر الأثرية التى تزخر بها، وشجعته على رسمها وتسجيلها فنيًا، وأمدته بالعديد من الأفكار وزادت من مدى خياله.
ويختتم بالحديث عن شعوره كلما انتهى من لوحة: «أشعر بعد الانتهاء من اللوحة كأنى التهمت ديك رومى، وبعد قليل أبدأ فى انتقاد نفسى وأحدثها بأنى أريد أن أخرج عملًا فنيًا أفضل، وفى بعض الأحيان بعد الانتهاء من لوحة معينة وخروجى من المنزل يتملكنى نوع من التذبذب فى رأيى حول العمل، وأنتظر عودتى بشدة لأتطلع إلى اللوحة من جديد وأضيف ما أريده».
يقول: «إن نظرت إلى اللوحات المعلقة فى منزلى سترى أنها استقرت فى مكانها، وأصبحت جزءًا من المكان، لأنها فى نظرى قد استكملت واستقرت».