رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سلطة الحاكم المستبد غير شرعية.. وإن استندت إلى نص الدستور


من ثم يمكن القول إن سلطة الحاكم المطلق أو المستبد غير مشروعة وإن استندت إلى نص الدستور القائم أى حتى ولو كانت سلطة قانونية، وعلى العكس تكون سلطة الحكومة الثورية مشروعة ولو قامت على أنقاض حكومة قانونية كانت تستند إلى أحكام الدستور.

إن تأسيس السلطة السياسية يبتعد بنا عن جعل التحولات الديمقراطية خاضعة لطرح يقوم على اعتبار أن انتقال السلطة أولوية وعلى أن التداول مسألة حتمية ناتجة عن تفعيل الديمقراطية. إن رهن التحولات الديمقراطية لا بتأسيس السلطة وإنما بانتقالها هو طرح يبدو من خلال التعامل مع التداول تارة على أساس أنه بند من البنود المعطلة، الأمر الذى يتطلب وضعه موضع التطبيق، وأخرى على أساس أنه مبدأ. هنا أعرج أولاً على النصوص القانونية والدستورية التى عندما تنظم وتضبط مسألة انتقال السلطة بإخضاع مؤسسة معينة للتجديد فإنها لا تضبط بالضرورة مسألة التداول وإنما تفسح المجال بصفة ضمنية لإمكانية التداول الذى تتحكم فيه عوامل، كالحزبية مثلا، لم تضبطها النصوص الدستورية خصوصًا إذا كان الأمر يتجاوز الأشخاص إلى الأحزاب، والمؤسسة الرئاسية إلى المؤسسة الحكومية والتشريعية.

هنا أعود إلى التداول لأقول بأنه سواء تم تناوله كبند أو كمبدأ ففى كلتا الحالتين يتم التعامل معه كما لو كان من قبيل الحتميات لا من قبيل الإمكانيات. إن اعتباره كأولوية تفسح المجال لانتقال السلطة لا يترتب عنه بالضرورة –وفى العمق - تحول فى الممارسة السياسية أو فى طبيعتها، وذلك عن طريق إعادة هيكلتها، وكأننا، بفعل طرح كهذا، أمام مرجعية هيمنت لمدة طويلة وما زالت رواسبها قائمة، تتمثل فى البحث عن أقصر الطرق للوصول أو للاستيلاء على السلطة السياسية كبديل للعجز عن الوصول إليها بواسطة العنف.

من هنا كان توظيف التناوب بالطريقة التى يبدو أنها لم تستوعب بعد متطلبات التأسيس التى لا بد لها من مقدمات ومراحل تنخرط بفعلها جميع القوى السياسية فى عملية التحول الديمقراطى وتعمل على مد الجسور بين مفاهيم الثورة والإصلاح، إن الشرعية والمشروعية يدخلان فى علم السياسة والقانون الدستورى بقدر ما يتعلق الأمر بتعين السلطة التشريعية.. الفقيه «أندريه هوريو» الفرنسى يقول إن المفهوم السياسى للشرعية هو أن تستمد السلطة وجودها من رضاء المحكومين، الشرعية الدستورية تعنى أن يكون الدستور بحسبانه القانون الأسمى فى بلد من البلاد هو المرجع لتحديد مؤسسات الدولة واختصاصات هذه المؤسسات والقائمين بتمثيلها المعبرين عن إرادتها. والدستور إذ يحدد سلطات الدولة ومؤسساتها يقتضى أن تكون تلك السلطات والمؤسسات خاضعة للدستور عاملة فى إطاره لا تعدوه ولا تخرج عليه. ومن هنا قيل إن الدستور تضعه «السلطة المؤسسة» فى الدولة وإن هذه السلطات والمؤسسات داخل الدولة إنما هى سلطات مؤسسة والدولة نفسها فى ظل الشرعية الدستورية تعتبر مؤسسة المؤسسات. ومن المنطقى أن السلطة المؤسسة وما تضعه من دستور تأتى فى وضع أعلى وأسمى من السلطات المؤسسة وما يصدر عنها من قوانين أو قرارات أو حتى أحكام قضائية.

كل سلطات الدولة الحديثة من تشريعية وتنفيذية وقضائية تخضع للدستور بحسبان أن الدستور هو سند وجود هذه السلطات جميعاً وهو مصدر شرعيتها فإذا كان ذلك كذلك فإنه لا يتصور أن يصدر عن السلطات التشريعية قانون يخالف الدستور وكذلك أيضًا لا يجوز للسلطة التنفيذية أن تصدر قرارات مخالفة للدستور الذى هو سند وجود هذه السلطة وهو الذى أعطاها ما تمارسه من اختصاصات. أيضًا السلطة القضائية مع الاختلاف بين طبيعتها وطبيعة السلطتين الأخريين بحسبانها سلطة غير منشئة فهى لا تشرع ولا تسن قوانين ولا تصدر قرارات وأنها هى تفصل فى منازعات تثور بين الناس وبعضهم أو بين الناس وأجهزة الدولة أو حتى بين أجهزة الدولة نفسها. السلطة القضائية سلطة غير منشئة بهذا المعنى وإنما هى سلطة فصل فى المنازعات وهى تفصل فى هذه المنازعات على ضوء أحكام القانون. وأحكام القانون بالمعنى الواسع أو عبارة سيادة القانون بمعنى أعم تعنى حكم أو سيادة القانون. وعبارة حكم القانون أو سيادته the rule of law تعنى سيادة القاعدة القانونية بمعناها الشامل والذى يبدأ من أعلى بالقاعدة الدستورية ثم تأتى القاعدة التشريعية ثم القرارات الإدارية لائحية أو فردية.

هذا هو المفهوم العام البسيط للشرعية الدستورية، وهو مفهوم حديث نسبياً، ذلك أن فكرة الدستور نفسها باعتباره القانون الأساسى أو القانون الذى يسمو على غيره من القوانين هى فكرة لا يتجاوز عمرها قرنين من الزمان إلا قليلاً، وقبل هذه المرحلة كانت الدولة تقوم أساساً على حكم الفرد وعلى إرادة هذا الفرد الحاكم أو مجموعة الأفراد الحاكمين. كان معنى الشرعية يرجع إلى إرادة الملك أو إرادة الأمير أو إرادة السلطان أو ما شئت من مسميات، كان كل ما يصدر عن هؤلاء يعد مشروعاً ما داموا يتمتعون بسدة الحكم. وكانت إرادة الدولة آنذاك ترتبط بإرادتهم وتختلط بها. لم يكن الملك أو الأمير أو السلطات صاحب «اختصاص» يزاوله استناداً إلى قاعدة قانونية وإنما كان يعتبر نفسه وكان يعتبره الناس هو «صاحب السلطة» وليس معبراً عنها أو ممثلاً لها كما يقال الآن فى ظل الشرعية الدستورية أو فى ظل مبدأ سيادة القانون. ومن هنا كان صحيحاً من ناحية الواقع ومن ناحية القانون ما قاله لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، فالشرعية هى ليست فقط مقياسًا لمدى مشروعية تصرفات وأعمال الأفراد العاديين، بل هى أيضًا مقياس لأعمال وتصرفات أصحاب صنع القرار فى السلطات الحاكمة فرادى أو مجتمعين، لأن هؤلاء ما هم إلا بشر كغيرهم من الأفراد؛ وبالتالى فهم غير معصومين من الخطأ أو الزلل. ولهذا إذا تم الانحراف عن هذه الشرعية وعن جوهر الشرعية، وهو ما قد يدفع نحو ثورة علية كوسيلة للردع وتصحيح المسار بهدف وضع المبادئ التى تشكل جوهر الشرعية موضع تنفيذ عملى. والمشروعية تعنى مدى التزام المؤسسات والحكومة بالقانون والدستور، فمن خرج عن القانون والدستور صار محظورًا ومن وافق القانون صار مشروعًا.

ومن ثم يمكن القول إن سلطة الحاكم المطلق أو المستبد غير مشروعة وإن استندت إلى نص الدستور القائم أى حتى ولو كانت سلطة قانونية، وعلى العكس تكون سلطة الحكومة الثورية مشروعة ولو قامت على أنقاض حكومة قانونية كانت تستند إلى أحكام الدستور.

ومثال التفرقة بين الحكومة أو السلطة التى تأتى عقب ثورة شعبية فهى تكون حكومة غير شرعية لكنها تتصف بالمشروعية لأن عملها يتقبله الشعب أما السلطة الانقلابية فهى غير شرعية لأنها لم تستند فى وجودها إلى سند قانونى وكذلك فإنها غير مشروعة لأن عملها لا يرضى به الشعب. إن تحديد طبيعة الصراعات السياسية بالنظر إلى مجال الشرعية والمشروعية، أى بالتساؤل فيما إذا كنا أمام تنازع حول المشروعية أو الشرعية، لم يتم بمفهوم القطيعة بينهما، وإنما تم بدافع تحديد المجال المهيمن فى دائرة الصراعات السياسية والممارسة السياسية. فالمجال المهيمن فى الصراعات السياسية هو الذى يوجه الحياة السياسية ويمكن من تحديد المسافة التى تفصلنا عن الارتقاء إلى مرحلة تأسيس السلطة السياسية بالمفهوم الذى ذكرناه، أو من الوقوف عند التعثرات التى تعترض هذا الارتقاء. فبقدر ما يتركز التنازع حول المشروعية بقدر ما نبتعد عن تأسيس السلطة أو نخل به ويكون الالتفاف حول قواعد الشرعية الديمقراطية والدستورية –عندما لا يتم رفضها- تكتيكيًا خاضعًا لمتطلبات الظرفية السياسية ولميزان القوى السياسية.

■ أستاذ القانون العام - جامعة طنطا