رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف تبدأ حياتك بـ50 جنيها؟.. روشتة نجاح مجانية من قليني فهمي أنجح شاب في مصر قبل 100 سنة

جريدة الدستور

قليني فهمي كان يدير مليون فدان من أملاك الخديوي في الدائرة السنِية

تبرع بأملاكه لصالح أهل قريته في مغاغة وبنى مسجدا باسمه غيّره السلفيون إلي جامع خالد بن الوليد
في مصر الحقيقية كان القطب الوفدي والزعيم الوطني القبطي مكرم عبيد يحفظ القرآن الكريم ويستشهد بآياته ولم يقف مرة خطيبا إلا وآيات القرآن حاضرة وجارية على لسانه.
وفي مصر الحقيقية عاش القس سرجيوس في أروقة الأزهر ثلاثة شهور، وأرتقى منبر الأزهر مرات يخطب في المصلين ويدعوهم إلى الصمود وقت اندلاع الثورة ضد الإنجليز عام 1919، وأطلق عليه زعيمها سعد زغلول لقب خطيب الثورة وسماه المصريون خطيب المنبرين.. منبر الكنيسة ومنبر الأزهر.
وفي مصر الحقيقية جمع الفن بين فنانين شابين تخرجا من كلية الفنون الجميلة: راغب عياد (المسيحي) ويوسف كامل (المسلم)، ولم تسمح الظروف سوى بسفر واحد منهما فقط في بعثة لدراسة الفن في أوربا، فعقدا صفقة عجيبة بمقتضاها يسافر يوسف للبعثة ويتولى راغب إرسال نصف مرتبه من تدريس الرسم إليه لينفق على نفسه طيلة سنوات البعثة، ولما عاد يوسف رد الجميل لصاحبه القبطي فقرر أن يتحمل سفر صاحبه وينفق عليه في بعثته إلي باريس.
وفي مصر الحقيقية يقرر قليني باشا الوجيه القبطي أن يبني مسجدا ليصلي فيه أهل بلدته في مغاغة بمحافظة المنيا، ويوقف عليه فدانين من أملاكه للإنفاق على صيانته.
«1»
وقليني باشا شخصية مبهرة في التاريخ المصري لم تنل ما تستحق من اهتمام وتقدير وتأمل لسيرته وما تحمله من معان، فقد كان نموذجا مدهشا للشاب المصري عندما يقرر النجاح والإنجاز، ونحاول هنا أن نستعيد سيرته في ظلال منتدى الشباب الذي تقام فعالياته الآن في شرم الشيخ.. فقبل مائة عام كان قليني فهمي أنجح شاب في مصر، بحكم المناصب المهمة التي تولاها، وبحكم النجاح الملفت في كل عمل تولاه، فذات يوم كان هو المسئول عن إدارة مليون فدان، هي حجم أملاك الخديوي إسماعيل أو ما كان يُعرف بالدائرة السنِية، وكان هذا الشاب الصعيدي هو باشكاتب الدائرة والمكلف بإدارتها.
وفي ملفه الشخصي يمكننا أن نجد مزيدا من المعلومات والحكايات عن أنجح شاب في مصر قبل مائة عام، ففي العام 1860 ولد قليني فهمي عبد الشهيد لأسرة قبطية من وجهاء قرية نزلة الفلاحين بمركز مغاغة في محافظة المنيا، تعلم في مدرسة الأقباط الكلية بالقاهرة وأتقن الفرنسية والعربية، وكان عمره 15 سنة فقط عندما عُين كسكرتير في الدائرة السنية، وراح يترقى حتى عُين مفتش عام للدائرة وعمره 28 سنة، ونال درجة الباكوية قبلها بعام، وعندما أكمل الثلاثين من عمره عام 1890 أصبح "مدير الإدارة العمومية ومراقبا للأموال بوزارة المالية".
وفي تلك السنوات المبكرة من حياته شغل مناصب مرموقة: مدير مصلحة الجمارك.. مدير مصلحة الملح والنطرون.. مدير مصلحة مصايد الأسماك في النيل وفروعه والبحر المتوسط.. مدير مصلحة الملاحة.. مدير مصلحة الدمغة.. عضوا بمجلس الشيوخ ووكيلا لجمعية الهلال الأحمر.. وبحكم صداقته بالسلطان العثماني رشاد نال رتبة المير ميرال التى تعادل درجة الباشوية في مصر، ويومها كتب فيه شاعر القطرين خليل مطران قصيدة عصماء لتهنئته بالرتبة العالية واللقب الفخم، كما كتب سليمان العبد شيخ الطريقة الشافعية بالديار المصرية قصيدة حماسية في مديح الباشا القبطي يقول مطلعها: قليني باشا مير ميران الأمرا.. وعزمه يعلو النجوم الزهرا.
وقليني باشا كان صاحب مشروع بنك التسليف الزراعي، فبعد انهيار بورصة القطن المصرية في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية بين الحربين، وأصبح الألاف من الفلاحين المصريين مهددون بالإفلاس ومصادرة أراضيهم بسبب الديون المتراكمة، اقترح قليني باشا إنشاء بنك وطني لتسليف الفلاحين حتى يتثنى لهم دفع مديوناتهم ولا تُنزع ملكية أراضيهم.
ويسجل التاريخ أن قليني باشا كان وراء قانون ألغاء عقوبة الضرب بالكرباج وإلغاء السُخرة.. كما يسجل له أنه كان وراء حل الأزمة التي اشتعلت بين البابا كيرلس الخامس والمجلس الملي للكنيسة التي انتهت بصدور قرار من الخديوي بنفي البابا إلى الدير، وتدخل قليني باشا بنفوذه وأقنع المجلس بكتابة التماس إلى رياض باشا رئيس الوزراء لإعادة البابا.. وفعلا عاد البابا إلى كرسيه.
كان قليني باشا من أغنياء مصر، وله في أعمال الخير ما يحتاج إلي صفحات لنحكي تفاصيله، فهو الذي أنشأ المستشفى القبطي ليعالج كل المرضى بالمجان وأوقف عليه 30 فدانا من أملاكه، أما ما قدمه لأهل مسقط رأسه في مغاغة فأكبر من الحصر، فيذكر لي أستاذ التاريخ الحديث إسلام عاصم أنه تبرع لبناء 4 مدارس على مساحة 20 ألف متر، وأنشأ ما يشبه مدينة مصغرة للطلاب الغرباء ليقيموا بها بالمجان خلال سنوات الدراسة، وأوقف قصره المنيف بمغاغة ليكون مستشفى للفقراء من كل الأديان وأوقف عليه 75 فدانا للصيانة وشراء الأجهزة الطبية ودفع أجور الأطباء والممرضات، وهو الآن مقر مستشفى مغاغة العام.. كما خصص جوائز سنوية سخية تُقدم للمتفوقين في مدارس مديرية المنيا التعليمية.. وتبرع بقصره الفخم بحلوان ليكون مدرسة للبنات من كل الأديان وأوقف عليه 58 فدانا.
وامتلك قليني باشا السماحة الدينية لأن يبني مسجدا ليصلي به أهل قريته من المسلمين، وظل المسجد محتفظا باسم قليني باشا إلي أن جاء عهد المد السلفي الذي ضرب المنيا منذ السبعينيات فغيروا اسمه إلي مسجد خالد بن الوليد.
وما زال الذين عاشوا زمن قليني باشا من أهل المنيا يذكرون الرائحة الزكية للمديرية كلها بسبب مصانع العطر التي أنشأها الباشا.
«2»
كان قليني باشا يتمتع بعقلية اقتصادية فذة جعلته واحدا من أنجح الشباب في مصر حين كان الزمان مطالع القرن العشرين، وأمامي الآن وثيقة تؤكد عبقرية الرجل وفكره المتطور السابق كثيرا لعصره، بل من خلال هذا الحوار الذي أجرته معه جريدة (الاتحاد) ونشرته في 13 أبريل 1932 نكتشف أن قليني باشا كان صاحب فكرة إنشاء جهاز قومي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، ومن حق ورثته أن يسجلوا الفكرة باسمه.. وكان أول من طالب الشباب بالهرب من وظائف الحكومة والاتجاه للمشروعات الخاصة بعيدا عن (تراب الميري).
تعالوا نقرأ ما اقترحه قليني باشا منذ 86 سنة لحل مشكلة بطالة الشباب، وهي اقتراحات مازالت صالحة للتنفيذ.
قال قليني باشا: "من رأيي أنه إذا شاء أن يحفظ الشبان مستقبلهم من الضياع أن لا يضعوا نصب أعينهم الاستخدام (التوظيف) في الحكومة وألا يعولوا عليه، إذ لا يجب أن يكون محل أمل لجميع الطلبة الذين يتخرجون من المدارس فيوجهون أفكارهم إلي الاشتغال بالأعمال الحرة بعيدا عن خدمة الحكومة كالتجارة والزراعة والصناعة ونحو ذلك.
وبديهي أن الأعمال الحرة تحتاج إلي رأس مال، وقد لا تكون متوفرة لدى كثير من الشبان المبالغ اللازمة للقيام بها، لذا فإني أري أنه من العدل والانصاف أن تمد الحكومة كلا منهم بمبلغ خمسين جنيها كرأس مال يغامر به معتمدا على ذكائه وتجاريبه (تجاربه) إن كانت له ثمة تجاريب في الحياة، ونترك له حرية الاختيار في العمل الذي يرغب في الاشتغال به، ولكي نشجعهم على المضي في سبيلهم والنجاح في عملهم يُضاعف هذا المبلغ لكل من نرى أنه موفق في عمله.
وأنا أرى من مصلحة هؤلاء الشبان ألا يعمل كل شخص منهم بمفرده، بل يجب أن يكوّنوا من بينهم شركات يعملون فيها متضامنين يوحدون جهودهم ويبذلون ما في مقدورهم في خدمة العمل الذي يقومون به، هذا ما أراه لمصلحة هذه الفئة وأقترحه ضمانا لمستقبل رجال المستقبل، أما الذين يرون أن أسرهم تستطيع معاونتهم فيمكنهم الاعتماد عليها للدخول في ميدان الحياة العملية الحرة.
على أني أري أنه يجب تحديد قيمة الاعانة التي تقدمها الحكومة بحيث لا تتعدى في السنة عشرة آلاف جنيه توزع على مائتي شاب، وإني أقصد بهذا الاقتراح ألا يكون الشباب المتعلم الذي يتخرج عاما بعد عام عالة على الحكومة والبلاد، فنحفظ بذلك كرامة شبابنا ونأمن جانبهم، وإنه من الخطر أن يُتركوا وشأنهم وقد سُدت في وجوههم أبواب الرزق دون أن نأخذ بيدهم ولنسدد خطاهم ولنعاونهم على أيامهم ودهرهم.
أما فيما يتعلق بالعاطلين من العمال فأرى أنه يجب أن يشتغلوا بالزراعة، فبلادنا بلاد زراعية ونحتاج للمزيد من الأيدي العاملة، فإنك قلما تجد في الأرياف سواء كان في الوجه البحري أو في الوجه القبلي عمالا عاطلين، فالكل يعمل في الشئون الزراعية، وأغلب العاطلين يوجدون في المدن، ولو أنهم نزحوا إلي الأرياف ونزلوا من غلوائهم وخفضوا من شموخهم واستغلوا الأراضي كإخوانهم عمال الأرياف لكان لهم من ورائها رزق كاف لضمان معاشهم ومعاش عيالهم، ولم يبق في مصر عاطل واحد".