رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التركة المنفلتة 10

محمد الباز يكتب: لعنة المصادر.. من أين يحصل الإعلاميون على معلوماتهم؟

محمد الباز
محمد الباز

- المصادر المُجهّلة طغت على الصحافة فى التسعينيات بسبب استهداف الإرهابيين للمصادر الأمنية المعلنة
- الصحفيون استغلوا الصيغ المُجهّلة فى نشر معلومات غارقة فى الخيال وبعيدة عن الواقعية بشكل كامل
- هناك مصادر تعمل على استغلال الإعلام لتمرير ما تريد من معلومات تخدم مصالحها فى النهاية
- برامج التوك شو أسهمت فى ترسيخ فوضى الألقاب العلمية.. وبعض مقدميها يسعون لإشعال النار

فى قاعات الدراسة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، أعتمد اختيار بداية مختلفة مع طلابى فى مساحات إعداد صحفى محترف، أقول لهم: ما الأداة الأساسية التى يجب أن يمتلكها من يعمل فى مهنة الإعلام؟
يجتهد طلابى، كلٌ حسب تصوره لدوره الذى يتخيله فى مهنة تمثل بالنسبة لهم «حلم العمر»، يقولون كلامًا كثيرًا معظمه معقول وبعضه ساذج جدًا، لكن لا يأتى أى منهم على الإجابة الصحيحة التى أتصورها، يقولون إن الإعلامى يجب أن يكون قارئًا ومثقفًا وملمًا بالأحداث التى تدور من حوله، وأن تكون لديه مسئولية تجاه مجتمعه، وأن يكون صوت الناس الذين هم جمهوره، أن يتبنى قضاياهم ويدافع عنهم، وأن يتمتع بالدقة والمصداقية والموضوعية، حتى يبنى بينه وبين قرائه أو مشاهديه جدارًا صلبًا من الثقة.
لا أتعامل مع ما يقوله طلابى بتعالٍ أو استنكار، لكننى أضع أمامهم ما يجب أن يتقنونه فى البداية، فالأداة الأساسية التى يجب أن يجيدها الصحفى هى السؤال، نعم القدرة على تكوين سؤال صحيح، حتى يحصل من خلاله على إجابات دقيقة، صحيح أن من نتحدث معهم يقولون ما يريدونه، ويحجمون عن التصريح بما لا يرغبونه، لكن السؤال الصحيح يقدر على انتزاع إجابات ينتظرها الصحفى والناس أيضًا.
على نفس الدرجة من أهمية القدرة على تكوين سؤال صحيح، تأتى أهمية اختيار المصدر الذى يجب أن يتحدث.
فى منظومة المصادر يعرف الصحفيون أن هناك مصادر سهلة جدًا، تتحدث إليك ربما قبل أن تستكمل سؤالك، وفى تراثنا الإعلامى مصادر كثيرة من هذه النوعية، ولعل الصحفيون يتذكرون الدكتور أحمد المجدوب، عالم الاجتماع الشهير الراحل، كان الصحفيون يلجأون إليه للتعليق على تحقيقاتهم، وكان المجدوب كريمًا جدًا لا يرد صحفيًا، للدرجة التى تشعر معها أنه كان يجلس إلى جوار التليفون ٢٤ ساعة، فهو جاهز للكلام فى أى وقت وفى أى موضوع.
تحول الدكتور المجدوب، الذى كان يتمتع بطيبة القلب، للدرجة التى دفعت بعض الصحفيين إلى درجة أكبر من الاستسهال، عندما كانوا يضعون على لسانه كلامًا دون أن يتحدثوا معه، ولم يكن يعترض أبدًا، فمن كثرة حديثه مع الصحفيين، لم يكن يعرف هل قال هذا الكلام أم لم يقله، وبلغ الأمر ببعض الصحفيين أنهم كانوا يضعون كلامًا على لسان الدكتور المجدوب بعد وفاته، ومرت تصريحات للمصدر المتوفى كثيرًا دون أن يكتشف ذلك أحد.
من المصادر السهلة، ويمكن أن نكون أكثر تأدبًا معهم فنصفهم بأنهم كانوا متعاونين، الكاتب الصحفى الكبير صلاح عيسى، وقد جربت هذا بنفسى، كنت أتواصل معه، وقبل أن أنهى سؤالى، كان يبدأ فى إجابته التى كانت تأتى متدفقة وفياضة جدًا، وأشهد الله أن الأستاذ صلاح عيسى كان مبهرًا جدًا فى كل ما يقوله.
لقد تحولت المصادر التى يجب أن تكون نعمة للصحفيين، فمنهم تأتى المعلومات، إلى لعنة، ولن أكون مبالغًا إذا قلت إن هذه اللعنة ضربت الإعلام فى مقتل، وساعد على ذلك ضعف واضح فى تكوين الإعلاميين ووهن فى علاقتهم بمنظومة المصادر.
يضيق المسئولون والقراء والمشاهدون أيضًا بما يسمى المصادر المُجهّلة، ورغم هذا الضيق إلا أن هذه المصادر تعتبر عمودًا فقريًا تعتمد عليه التغطيات الإعلامية، دون أن يعرف مستهلكو المادة الإعلامية أن هناك ما يَضطر الإعلاميين للاعتماد على هذه المصادر.
لقد طغت المصادر المُجهّلة على الصحافة المصرية فى منتصف التسعينيات، وكان لذلك ضرورة سياسية وليست مهنية.
كانت موجة الإرهاب فى وقتها فى ذروتها، وعناصر الجماعات الإرهابية يرصدون المصادر الأمنية التى تتحدث فى الصحف، وحدث أن تمت تصفية قيادات فى السجون كانوا يتحدثون فى الإعلام بأسمائهم، ويتلقى آخرون تهديدات من مجهولين، فوصل مسئولو الأمن مع مسئولى الإعلام إلى صيغة، يتحدث خلالها المسئولون الأمنيون فى الإعلام دون ذكر أسمائهم.
كان التصرف المهنى الذى خرج به الإعلام من هذا المأزق هو نشر الكلام مع تجهيل مصدره، فظهرت صيغ كثيرة مثل مصدر أمنى ومصدر مسئول ومصدر مطلع ومصدر وثيق الصلة ومصدر سيادى.. وغيرها من التوصيفات التى تعنى فى النهاية أن من يتحدث له حيثية تجعل من حقه أن يتحدث، لكن هناك ما يمنعه من التصريح باسمه.
الصيغة كانت نبيلة إذن، لجأ إليها الإعلاميون لحماية المصادر، لكن هذه الصيغة النبيلة نفسها، كانت سببًا من أسباب ترهل الإعلام فى مصر، فقد استغل الصحفيون الصيغ المُجهّلة، ونشروا معلومات غارقة فى الخيال وبعيدة عن الواقعية تمامًا، وأسندوها إلى مصادر مطلعة أو مقربة، وهم يعرفون جيدًا أن أحدًا لا يمكن أن يكذبهم أو يحاسبهم، حتى لو ثبت كذب المعلومات المنشورة، فالخبر هنا لقيط لا أب له يمكن أن يتحمس لمحاسبة من أساء التصرف معه أو به.
أفسدت الأخبار المُجهّلة الإعلام من زاوية أخرى تمامًا، فقد انتشرت الأبواب التى تحمل أسماءً موحية، فأصبحنا نجد أبوابًا صحفية تحمل أسماء «هات ودنك ودبابيس وخرابيش واكتم السر» وغيرها، تعتمد بشكل أساسى على نشر أخبار دون أسماء، وكان الهدف منها تصفية الحسابات فى مجالات السياسة والثقافة والفن والاقتصاد، ولم يسلم أحد من وخز هذه الأخبار، ورغم أن المجلس الأعلى للصحافة حاول محاربة هذه الظاهرة- فوضعها ضمن المخالفات المهنية فى تقريره الذى كان يعده عن الممارسات الإعلامية كل شهر، وكان يشرف عليه أستاذنا الكبير فاروق أبوزيد، عميد كلية الإعلام السابق، وكان يتم لفت انتباه الصحف إلى خطورة هذه الأخبار- لكن لم يستجب أحد.
المفاجأة الكبرى أن هناك من استغل هذه الصيغة الخبرية، وأصبح يلجأ إليها فى نشر بعض الأخبار غير المنسوبة لمصادر بعينها، من أجل تمرير أخبار تجعل منها بالونة اختبار تقيس من خلالها رد فعل الجمهور على قرارات بعينها قبل إصدارها، فإذا كان رد الفعل طبيعيًا يصدر القرار، وإذا كان رد الفعل مقلقًا، يتم تكذيب الخبر المنشور لكن على لسان مصادر معلومة هذه المرة.
المصادر المُجهّلة كانت وراء ما يمكن تسميته فى الإعلام المصرى بـ«تقارير التوقع»، حيث يمكن أن تقرأ أخبارًا فيها توقع لأحداث وتغييرات معينة دون أن تكون هناك معلومات حقيقية، وأصبح من المعروف أن هذه التقارير تنشط فى أوقات تغيير المسئولين وأوقات الاضطراب السياسى.
الغريب أن تقارير التوقع هذه لا تعتمد على قراءة منطقية للواقع او فحص جيد لمعطياته، وهو ما يجعلها قريبة مما يحدث على الأرض، لكنها تخضع لهوى من يكتبها، فيضع فيها ما يتمنى حدوثه، بصرف النظر عن منطقية ما يقوله أو معقوليته.
كنت أشرف على تحرير إحدى الصحف الأسبوعية، وتوفرت لدى معلومات عن تغيير وزارى كامل، انتهيت من كتابة التقرير وبدأت فى تجهيزه للنشر، وفجأة دخل علىّ مسئول الإعلانات فى مكتبى وهو مضطرب جدًا، قال لى إن هذا التقرير لن ينشر بهذه الطريقة أبدًا، ولما أبديت له اندهاشى من تدخله فى عملى، قال لى ببساطة: «التقرير لو اتنشر بهذه الطريقة سنخسر كثيرًا، ذكرت أسماء ٣ وزراء بيننا وبين وزراتهم عقود إعلانية، ولو حدث واستمروا فى مناصبهم فسيلغون العقود الإعلانية، وهو ما سيفقدنا دخلًا كبيرًا».
لن أقول لكم إننى رفضت ما يقوله مسئول الإعلانات فى الجريدة، فقد رفعت أسماء الوزراء الثلاثة من التقرير، مستجيبًا لضغوط الإعلان وسلطانه، لكنى لم أستجب لطلب مسئول الإعلانات الذى قال لى ساخرًا إننى يمكن أن أضع مكانهم أسماء ثلاثة وزراء لا يتعاونون معنا فى الإعلانات، فقلت له: الحكاية كده تبقى وسعت مننا جدًا.
من بين لعنة المصادر التى حطت برحالها على الإعلاميين المصريين، ما يحدث نفسيًا من حالة توحد بين المصدر والصحفى، يذهب أحدهم إلى مصدره ويستمع منه، وبعد أن يسجل المعلومات التى حصل عليها منه، ورغم أنها معلومات المصدر وهو المسئول الأول عنها، إلا أن الصحفى يتعامل مع هذه المعلومات على أنها معلوماته هو، يتحمس لها بشدة ويدافع عنها بكل ما يملك، ولا يقبل أن يكذبها أحد، حتى لو كان التكذيب يعتمد على ما يشير ويدل ويثبت.
ستقول لى إن الصحفى يتوحد مع المصدر لأنه يثق فيه، ربما لسابق تعامله معه، سأقول لك حتى لو كانت هذه الثقة كاملة ومطلقة، فلا بد أن يبدى الصحفى شكًا فيما يسمعه، وهو الشك الصحى الذى يدفعه إلى البحث عن صدقية المعلومات التى يستمع إليها من المصدر، فإذا كان السؤال هو الأداة الأولى التى يجب أن يمتلكها الصحفى، فيجب أن يكون الشك المهارة الأولى التى يتمتع بها، وعليه أن يجددها ويعمل عليها حتى تصبح مهارة مطلقة.
لماذا أتحدث عن الشك باعتباره مهارة مهمة جدًا من مهارات الإعلامى؟
ما لا تعرفه أن هناك مصادر تعمل بدأب وقصد على استغلال الإعلام لتمرير ما تريد من معلومات تخدم مصالحها فى النهاية، ولا فرق فى ذلك بين المصادر فى عالم السياسة، وتلك التى تجتهد فى عالم الفن، ولن أخفى عليك أننا نعرفها جيدًا، ونعرف حدود ومدى رغبتها فى استغلال الإعلام، ولا أخفى عليكم أيضًا أننا نستجيب لرغباتها فى الاستغلال، لأنه يكون استغلالًا متبادلًا، كل طرف يحقق فيه مصلحته الكاملة.
ولذلك فمن القواعد التى سعيت إلى تفعيلها مبكرًا فى عملى الصحفى قاعدة «الورقة الناقصة»، فعندما يسعى إليك مصدر ويمنحك أوراقًا مهمة تمكنك من كشف فساد كبير، فعليك أن تبحث عن الورقة الناقصة التى أخفاها هذا المصدر فى درج مكتبه قبل أن يأتى إليك، صحيح أن هذا المصدر سيقول لك إنه يعمل من أجل البلد، وإنه يحارب الفساد، لكن لا بد أن تسأل أنت أيضًا، ما مصلحة هذا المواطن تحديدًا فى كشف هذا الفساد بالتحديد؟، والمفاجأة التى أعتقد أنها متوقعة جدًا بالنسبة لك، أن من يحمل الأوراق إلى الصحفى يكون صاحب مصلحة، لكن هذا لا يحول بالطبع دون التعاون معه.
أعرف أن الحصول على المعلومات فى مصر أمر صعب للغاية، ويعتقد الإعلاميون أنه بإتاحة المعلومات يمكن أن تنتهى الأزمة، لكن هذا وهم كبير، فالمشكلة الكبرى أن الإعلام يعمل فى مجال عام يميل إلى الإخفاء وعدم الإفصاح بشكل عام.
أحد وزراء عصر مبارك كان هدفًا للصحفيين عدة سنوات وهو محمد إبراهيم سليمان، عندما ضاق ذرعًا بالصحفيين قال لمعاونيه إنه يريد أن يضع يافطة على وزارته يكتب عليها «ممنوع دخول الصحفيين والكلاب»، ورغم أن الإهانة كانت واضحة فى كلام الوزير، إلا أنه كان يبرر ما يقوله بقوله إن الصحفيين يدخلون الوزارة يتشممون الأخبار مثلهم فى ذلك مثل الكلاب تمامًا، وإنه لم يكن يقصد إهانتهم.
هذه الفلسفة التى تحكم العلاقة بين من يملكون المعلومات ومن يعملون للحصول عليها، تجعلنى لا أتعجب أبدًا عندما يُصدر مسئول قرارًا يُلزم معاونيه بعدم التعامل مع الصحفيين إلا بتصريح منه، فمبلغ الظن عندى، وهو ظن يصل إلى مرحلة اليقين، أن المسئول يعتقد أن النشر سيفسد عليه ما يفعله، دون أن يقدر أن الصحفى عندما يسعى إلى الحصول على المعلومات لنشرها يفعل ذلك نزولًا على مقتضيات عمله.
فى الصحافة الأمر يكون سهلًا إلى درجة كبيرة، فيمكن أن تكتب دون أن يظهر مصدرك، ويمنحك القانون حق عدم الإفصاح عن مصادرك، رغم أن كثيرًا من الصحفيين يفصحون عن أسماء مصادرهم، والوقائع كثيرة ومخجلة فى آن واحد.
لكن فى البرامج التليفزيونية يكون من الصعب جدًا إخفاء المصدر، فهو لا بد أن يتحدث بنفسه، سواء كان ذلك عبر المداخلات التليفونية التى يتم ترتيبها بشكل مسبق، أو مع الضيوف الذين يتحدثون فى الاستديو، وهنا يمكن أن تظهر مشكلات كثيرة، بعضها كان له دور كبير فى إفساد المشهد الإعلامى كله.
من هذه المشاكل أن البرامج تستسهل وتستضيف مصادر من الدرجة الثانية، لا تكون عندهم الصورة مكتملة، وهؤلاء يسهمون فى الشوشرة على الرأى العام أكثر مما يسهمون فى تنويره، لكنهم لا تتردد عن استضافتهم فى ظل رفض مصادر الدرجة الأولى الحديث أو الظهور التليفزيونى.
ومنها أيضًا أن الإعلاميين يميلون إلى الضيوف الذين يجيدون الحديث بصرف النظر عما يقولونه على الهواء، هؤلاء لهم دور كبير فى الشو التليفزيونى، حتى لو كان ما يقولونه خطيرًا جدًا، ولعلكم تذكرون الراحل صلاح جودة الذى كان يتم تقديمه فى البرامج التليفزيونية على أنه خبير اقتصادى، دون أن يعرف أحد فى أى شىء تخصص، لكنه مع ذلك كان يتحدث فى كل شىء وبطلاقة نادرة مقدمًا الحلول لكل المشاكل التى يعانى منها الناس، ورغم أن الكلام كان منظمًا ومرتبًا جدًا إلا أنه فى حقيقته كان أجوفًا ويخاصم كثيرًا من تعقيدات الواقع.
أمثال هؤلاء من المتحدثين فى البرامج التليفزيونية هم الذين يسعون إلى الحديث فيها ويتواصلون مع المعدين الذين يجدون أمامهم متحدثين جاهزين، والمشكلة الكبرى أنهم لا يكونون متخصصين، وحتى يسبغ عليهم المذيع قيمة فإنه يمنحهم خلال تقديمه لهم صفات ومراكز علمية لا يتمتعون بها فى الواقع ولا يستحقونها، فتجد فى وجهك الخبير السياسى فلان والخبير الاستراتيجى علان، ولا مانع من أن يكون لدينا الخبير السياسى والاستراتيجى معًا، دون أن يكون هناك استحقاق علمى لذلك.
لقد ساهمت برامج التوك شو فى ترسيخ فوضى الألقاب العلمية، حيث يحرص كثيرون ممن يقدمون البرامج على أن يسبق أسماءهم لقب الدكتور، رغم أنهم لم يحصلوا على الدرجة العلمية التى تؤهلهم لذلك، وبكرم حتمى غير محمود يمنحون اللقب نفسه لضيوفهم الذين لا يستحقونه، ورغم أن الأمر لا يخرج عن كونه مجاملات، إلا أنه يكشف جانبًا كبيرًا من جوانب فساد المشهد الإعلامى العام.
من بين ما يحدث أيضًا أن يستضيف مذيعو التوك شو طرفًا واحدًا من أطراف قضية كبيرة من القضايا التى تشغل الرأى العام، وينحاز لرأى ورؤية هذا الطرف، وهو ما حدث مثلًا فى قضية قاتل طفليه فى ميت سلسيل، محمود نظمى، فقد قدم أحد الزملاء المذيعين حلقة كاملة استضاف فيها أهل المتهم بالقتل وأصدقاءه، وكان طبيعيًا أن يدافعوا عنه دفاعًا مستميتًا، وكان طبيعيًا أيضًا أن يحصدوا تعاطف الرأى العام، وهو ما صعّب مهمة الأجهزة الأمنية والجهات القضائية، فقد كان هذا التعاطف سببًا فى عدم تصديق الناس للروايات الرسمية التى خرجت لتتحدث عن حقيقة ما جرى فى هذه الحادثة غير الإنسانية تمامًا.
هذه الزلة يمكن أن نتفاداها تمامًا بألا نفسح الساحة لطرف واحد، ولو فرضنا أن الطرف الثانى لا يريد أن يظهر أو يتحدث، فلا داعى لمناقشة هذه القضايا من الأساس، فضرر طرحها أكبر بكثير من تجاهلها.
يبقى مظهر آخر من مظاهر فساد المشهد الإعلامى الذى تشكله الفضائيات، وتحديدًا برامج التوك شو، فأحيانًا ما يلجأ مقدمو البرامج إلى افتعال شجار بين الضيوف أو المتحدثين عبر المداخلات، وكلما هدأ النقاش، أشعل مقدم البرنامج النار مرة أخرى، فالصراع يقود إلى مزيد من المتابعة، بصرف النظر عن القيمة التى تعود على الناس منه.
أعرف أن كثيرًا من هذه المظاهر سيتوارى قريبًا، بل يمكن أن يختفى بشكل كامل، لأن هناك من أدرك خطورة الأمر، وكان مهمًا أن يقوم بدوره من منطلق مسئوليته فى ضبط المشهد المنفلت.